القديم، وأملنا الوحيد هو في المستقبل، فلعل المستقبل يكون خيرًا من الحاضر والماضي، فيجود على الباحثين بآثار تمكنهم من تدوين تأريخ تلك المدينة, تدوينا علميا يفرح نفوس الملايين من الناس الذين يحجون إليها من مختلف أنحاء العالم، ولكنهم لا يعرفون عن تأريخها القديم، غير هذا المدون عنها في كتب أهل الأخبار.
وإذا كنا في جهل من أمر تأريخ مكة قبل أيام "قصي" وقبل تمركز قريش في مكة، فإن جهلنا هذا لا يجوِّز لنا القول بأن تأريخها لم يبدأ إلا بظهور قريش فيها وبتزعم قصي لها، وأن ما يروى من تأريخها عن قبل هذه المدة هو قصص لا يعبأ به؛ لأن ما يورده أهل الأخبار من روايات تفيد عثور أهل مكة قبل أيام الرسول على قبور قديمة وعلى حلي وكنوز مطمورة وكتابات غريبة عليهم، يدل كل ذلك على أن المدينة كانت مأهولة قبل أيام قصي بزمن طويل، وأن مكة كانت موجودة قبل هذا التأريخ، وأن تأريخها لذلك لم يبدأ بابتداء ظهور أمر قصي، ونزول قريش مكة في عهده.
وتأريخ مكة حتى في أيام قصي، وما بعدها إلى ظهور الإسلام لا يخلو مع ذلك من غموض ومن لبس وتناقض, شأنه في ذلك شأن أي تأريخ اعتمد على الروايات الشفوية, واستمد مادته من أقوال الناس ومن ذكرياتهم عن الماضي البعيد؛ لذلك نجد الرواة يناقضون أنفسهم تناقضًا بينًا في أمر واحد، ما كان في الإمكان الاختلاف فيه لو كانوا قد أخذوه من منبع قديم مكتوب. وسنرى في مواضع من هذا الكتاب وفي الأجزاء التي قد تتلوه عن تأريخ العرب في الإسلام نماذج وأمثلة تشير إلى تباين روايات أهل الأخبار في أخبارهم عن مكة في تلك الأيام.