للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الحرية]

والعربي مجبول على الحرية، وهو لا يطيق الخضوع لأحد غير قبيلته, على ألا يؤثر ذلك في حريته الشخصية. وقد أعجب "هيرودوتس" وغيره من كتبة اليونان والرومان بحب العرب للحرية ولمقاومتهم للاسترقاق، فذكروا أنهم كانوا الشعب الوحيد من بين الشعوب الآسيوية الذي لم يخضع لحكم الفرس، فلم يتمكن ملوك الفرس من استعبادهم، وإنما اضطروا إلى معاملتهم معاملة أصدقاء حلفاء، فقاموا لهم بخدمات جليلة سهلت لهم فتح مصر، ولو كان العرب حربًا على الفرس لما تمكنوا قط من حملتهم على مصر.

والعربي من هذه الناحية شديد التعلق بالحرية، والأعرابي يشعر, وهو في الحضر بين سكان القرى أو المدن، أنه في سجن لا يطاق؛ لكثرة القيود التي تقتضيها عادات المتحضرين، ويسعى للعودة إلى وطنه حيث ينطلق حرًّا كما يشاء. والقبائل تشعر هذا الشعور نفسه، فهي تعيش متمتعة بأعظم قسط من الحرية، لا تضحي بها، إلا لمقتضيات المحافظة على الحياة, حيث ترتبط بواجبات التحالف مع القبائل الأخرى للدفاع عن النفس وضمان ضروريات الحياة.

ولما كان لكل شيء حد ونهاية، غدت هذه الحرية أنانية شديدة، وفردية مطلقة حالت دون تعاون الأفراد, ومنعت من مساعدة القبائل بعضها بعضًا مع وجود خطر أجنبي داهم، وحالت دون تكون المجتمعات الكبرى وهي الحكومات، واقتصرت التنظيمات السياسية على القبائل، وأصبحت العصبية للقبيلة تعني القومية. وزاد في حدة هذه الأنانية القبلية اعتقادهم بالرابطة الدموية التي تربط الأسر بالعشائر، والعشائر بالقبائل، وإرجاع ذلك إلى الأنساب فلا تتعصب القبائل إلا لتلك القبائل التي تعتقد أنها وإياها من شجرة واحدة وأصل واحد.

وإن الحياة الصحراوية التي طبعت أصحابها بطابع الإفراط في حب الحرية الفردية، قد أثرت كثيرًا في الحياة السياسية والتفكير السياسي في بلاد العرب، فاقتصرت

<<  <  ج: ص:  >  >>