للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[كسب مكة]

ومكة كما ذكرت بلد في وادٍ غير ذي زرع؛ لذلك كان عماد حياة أهلها التجارة, والأموال التي تجبى من القوافل القادمة من الشام إلى اليمن والصاعدة من اليمن إلى الشام، وما ينفقه الحجيج القادمون في المواسم المقدسة؛ للتقرب إلى الأصنام, وهناك مورد آخر درَّ على أثرياء هذه المدينة المقدسة ربحًا كبيرًا، هو الربا الذي كانوا يتقاضونه من إيداع أموالهم إلى المحتاجين إليها, من تجار ورجال قبائل.

ولقد استفادت مكة كثيرًا من التدهور السياسي الذي حل باليمن، ومن تقلص سلطان التبابعة، وظهور ملوك وأمراء متنافسين، إذ أبعد هذا الوضع خطر الحكومات اليمانية الكبيرة عنها، وكانت تطمع فيها وفي الحجاز؛ لأن الحجاز قنطرة بين بلاد الشام واليمن، ومن يستولي عليه يتصل ببلاد الشام وبموانئ البحر الأبيض المهمة. وأعطى تدهور الأوضاع في العربية الجنوبية أهل مكة فرصة ثمينة عرفوا الاستفادة منها, فصاروا الواسطة في نقل التجارة من العربية الجنوبية إلى بلاد الشام، وبالعكس، وسعى تجار مكة جهد إمكانهم لاتخاذ موقف حياد تجاه الروم والفرس والحبش، فلم يتحزبوا لأحد، ولم يتحاملوا على طرف، وقوَّوْا مركزهم بعقد أحلاف بينهم وبين سادات القبائل، وتوددوا إليهم بتقديم الألطاف والمال إليهم؛ ليشتروا بذلك قلوبهم. وقد نجحوا في ذلك، واستفادوا من هذه السياسة كثيرًا.

وفي القرآن إشارة إلى تجارة مكة، وإلى نشاط أهلها ومتاجرتهم مع الشام واليمن: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} ١. قال المفسرون: إن رحلة الشتاء كانت إلى اليمن، أما رحلة الصيف فكانت إلى بلاد الشام، وإنهم كانوا يجمعون ثروة طائلة من الرحلتين تدرُّ على قريش خيرًا كثيرًا، وتعوضهم عن فقر بلادهم.

ويظهر أن أهل هذه المدينة كانوا يسهمون جميعًا في الاتجار, فيقدم المكي


١ سورة قريش، الآية الأولى والثانية.

<<  <  ج: ص:  >  >>