للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

التَّكَسُّبُ بالشِّعْرِ:

يذكر أهل الأخبار أن العرب كانت لا تتكسب بالشعر، أنفة وتعززًا، وإنما يصنع أحدهم ما يصنع مكافاة عن يد لا تستطيع على أداء حقها إلا بالشكر إعظامًا لها. بقوا على ذلك دهرًا، حتى نشأ النابغة الذُّبياني فمدح الملوك، وقبل الصلة على الشعر، وخضع للنعمان بن المنذر، وقد كان أشرف بني ذُبْيَان، وكان قادرًا على الامتناع منه بمن حوله من عشيرته، وله مال يكفيه، فسقطت منزلته، وكسب مالا جزيلا حتى كان أكله وشربه في صحاف الذهب والفضَّة وأوانيهما من عطايا الملوك. وذكر عنه من التكسب بالشعر مع النعمان بن المنذر ما فيه قبح من مجاعلة الحاجب ومجاملته والتودد إليه تقربًا وتزلفًا ليوصله إلى النعمان، ومن دس الندماء على ذكره بين يديه، وما أشبه ذلك١. هذا، وإنما امتدح ملكًا، فكيف بشاعر يمدح من هم دون الملوك والأشراف من السوقة وسواد الناس، طمعًا في صلة وعطاء٢!

وتكسب زهير بن أبي سلمى يسيرًا مع "هَرِم بنِ سِنَان"، ونال أمية بن أبي الصَّلت عطايا عبد الله بن جدعان لمدحه إياه، فلما جاء الأعشى جعل الشعر متجرًا يتجر به نحو البلاد، وقصد حتى مَلِكِ العجم فأثابه، لعلمه بقدر ما يقول عند العرب، واقتداء بهم فيه، على أن شعره لم يحسن عنده حين فسر له، بل استخف به واستهجنه لكنه حذا حذو ملوك العرب٣.

ثم إن الْحُطَيئة أَكْثَرَ من السؤال بالشعر وانحطاط الهمة فيه، حتى مقت وذل أهله، واستصغر شأنه، وعرف بتكسبه بشعره ٤.

وقد عيب "من تكسب بشعره والتمس به صلات الأشراف والقادة، وجوائز الملوك والسادة، في قصائد السماطين"٥. وإنما المقبول ما جاء بما لا يزري بقدر ولا مروءة، مثل الفلتة النادرة، والمهمة العظيمة، وعن باب التودد والتلطف


١ بلوغ الأرب "٣/ ٩١ وما بعدها"، العمدة "١/ ٨٠"،
٢ العمدة "١/ ٤٠ وما بعدها".
٣ بلوغ الأرب "٣/ ٩١"، العمدة "١/ ٨١".
٤ العمدة "١/ ٨١".
٥ البيان والتبيين "٢/ ١٣ وما بعدها".

<<  <  ج: ص:  >  >>