للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[القرابين]

وتؤلف القرابين جزءًا مهمًّا من عبادة الأمم القديمة، بل تكاد تكون العلامة الفارقة عندهم للدين. والرجل المتدين في عرفهم هو الرجل الذي يتذكر آلهته ويضعها دائمًا نصب عينيه، وذلك بتقديم القرابين لها، ولست أخطئ إذا قلت إنها كانت عندهم أبرز من العبادات العملية كالصلوات؛ لأن الإنسان القديم لم يكن يفهم آنئذ من الحياة إلا مفهومها المادي. وهو يرى بعينيه ويدرك أن ما يقدم إليه من هدايا يؤثر في نفسه كثيرًا، ولذلك كان من الطبيعي أن يتصور بعقله أن القرابين هي أوقع في نفوس آلهته من أي شيء كان، فقدمها على كل شيء، وجعلها عبادة يتقرب بها إلى الآلهة كما يتقرب أهل الأديان السماوية إلى الإله بالدعاء والصلوات، فهي في نظره عبادة تقربه إلى الأرباب.

وقد كان الجاهليون، يعظمون البيت بالدم، ويتقربون إلى أصنامهم بالذبائح، يرون أن تعظيم البيت أو الصنم لا يكون إلا بالذبح، وأن الذبائح من تقوى القلوب. والذبح هو الشعار الدال على الإخلاص في الدين عندهم، وعلامة التعظيم "قال المسلمون: يا رسول الله، كان أهل الجاهلية يعظمون البيت بالدم، فنحن أحق أن نعظمه"١.

ويظهر من قول أحد الشعراء الجاهليين:

فلا لعمر مسحت كعبته ... وما هريق على الأنصاب من جسد

أن الجاهليين كانوا يريقون دم الضحية على الأنصاب، وهي موضوعة في الكعبة، ويمسحون الكعبة٢.

وكلمة "قربان" وجمعها "قرابين" هي من أصل "ق ر ب"، وقد استعملت وخصصت بهذا المعنى لأنها تقرب إلى الآلهة. والقربان هو كل ما يتقرب به إلى الله. فليس القربان خاصًّا بالذبائح، وإن صار ذلك مدلوله في الغالب٣.


١ تفسير الطبري "٦/ ٤٨"
٢ الاشتقاق "ص٢٠٦".
٣ تاج العروس "١/ ٤٢٢"، "قرب" اللسان "٢/ ١٥٨"، قرب".

<<  <  ج: ص:  >  >>