لقد استغلت القبائل العربية الضعف الذي ظهر على الحكومة السلوقية، فأخذت تزحف نحو الشمال وتهدد المدن القريبة من البوادي وتحاول الاستيلاء عليها. وقد استولت فعلًا على بعضها وكونت حكومات يمكن أن نطلق عليها مصطلح "مشيخة" أو إمارة بحسب مصطلحاتنا السياسية في الزمن الحاضر. وهي حكومات توقفت حياتها على كفاية من كونها وأقام أسسها، وعلى كفاية من خلف المؤسسين لها من أشخاص. ولذلك كان عمرها قصيرًا في الغالب، وكان حجمها يتوسع أو يتقلص بسرعة؛ لأن قوة الحكومات بقوة الحكام، فإذا كان الحاكم ذا شخصية قوية وإرادة وحزم وذكاء، أغار على جيرانه وهاجم حدود الدول الكبرى، وأصابها بأضرار تضطرها إلى الاعتراف به رئيسًا على قبيلته وعلى الأعراب الخاضعين لسلطانه، ويبقى على مكانته هذه ما دام قويا، فإذا خارت قواه، أو ظهر منافس له أقوى منه، ولا سيما إذا كان منافسه قد جاء حديثًا من البادية بدم نشيط، ومعه قوم أقوياء أصحاب عدد، زعزع عن محله المرموق، وصار الأمر لغيره، وهكذا.
ويجب ألا ينصرف الذهن إلى أن هذه القبائل كانت قد جاءت إلى بادية الشأم في هذا الزمن أو قبله بقليل، فقد سبق أن تحدثت عن وجود الأعراب في هذه البادية قبل هذا العهد بزمان. وقد رأينا كيف حارب الآشوريون الأعراب، ولم يكن أولئك الأعراب الذين كانوا قد كونوا "إمارات" لهم في البادية من أبناء