للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والتذكر، فأما من وجود الكفاف والبلغة فلا وجه لسؤاله بالشعر١.

ومن هنا زعم أهل الأخبار أن أشراف أهل الجاهلية، كانوا يأنفون من قول الشعر، وكانوا ينهون أولادهم من قوله، فلما خالف امرؤ القيس وهو شريف وابن مَلِكٍ، أمر والده من وجوب ترك الشعر، واستمر على قوله، طرده بسببه من بيته، وأخرجه من داره، فصار من الضليلين، وهو زعم عارضه ابن رشيق ورد عليه بقوله: "وقد غفل أكثر الناس عن السبب، وذلك أنه كان خليعًا، متهتكًا، شبب بنساء أبيه، وبدأ بهذا الشر العظيم، واشتغل بالخمر والزنا عن الملك والرياسة، فكان إليه من أبيه ما كان، ليس من جهة الشعر، لكن من جهة الغي والبطالة، فهذه العلة، وقد جازت كثيرًا من الناس ومرت عليهم صفحًا"٢. فلم يكن طرد امرئ القيس من بيت أبيه أذن بسبب قوله الشعر، وإصراره عليه، وإنما بسبب أعماله من خلاعة وتهتك واستهتار، وهي أعمال تنافي أخلاق الأشراف.

وقد قيل في الشعر إنه يرفع من قدر الوضيع الجاهل، مثل ما يضع من قدر الشريف الكامل، وأنه أسنى مروءة الدني، وأدنى مروءة السري. وقيل إن الشريف كان يتحاشى قول الشعر، ويمنع أولاده من قوله. لأن قول الشعر مثلبة للرجل الشريف. وقد فسر هذا الزعم بعض العلماء بقوله: "إن الشعر لجلالته يرفع من قدر الخامل إذا مدح به، مثل ما يضع من قدر الشريف إذا اتخذه مكسبًا، كالذي يؤثر من سقوط النابغة الذبياني بامتداحه النعمان بن المنذر، وتكسبه عنده بالشعر، وقد كان أشرف بني ذبيان، هذا، وإنما امتدح قاهر العرب، وصاحب البؤس والنعيم"٣. مدحه ولم يكن في حاجة إليه، وكان أكله وشربه في صحاف الذهب والفضة وأوانيه من عطاء الملوك. وبين الشعراء الجاهليين من كان من السادة الأشراف، ولم يجد مع ذلك غضاضة في قوله الشعر،


١ بلوغ الأرب "٣/ ٩١ وما بعدها".
٢ العمدة "١/ ٤٣".
٣ في قول "ابن رشيق" "وصاحب البؤس والنعيم، هفوة، لأن صاحب البؤس والنعيم، هو "المنذر بن ماء السماء"، وصاحب النابغة هو "النعمان بن المنذر"، العمدة "١/ ٤١"، البيان والتَّبْيِينُ "١/ ٢٤١".

<<  <  ج: ص:  >  >>