للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كانوا قد تحضروا واستقروا، غير أنهم لم يتمكنوا من التخلص من الروح الأعرابية تخلصًا تامًّا، بل بقوا محافظين على أكثر سجاياها، ومنها النزعة إلى التخاصم والتقاتل، فألهتهم هذه النزعة عن الانصراف إلى غرس الأرض والاشتغال بالزراعة كما فعل اليهود، وعن الاشتغال بالتجارة بمقياس كبير على نحو ما فعل أهل مكة.

ونظرًا لمساعدة أهل يثرب للرسول ومناصرتهم له وللمهاجرين، عرف الأوس والخزرج بـ"الأنصار" في الإسلام. وصاروا يفتخرون بهذه التسمية، حتى غلبت عليهم، وصارت في منزلة النسب.

وكان أهل "يثرب" مثل غيرهم تجارًا، يخرجون إلى أسواق الشام فيتجرون بها. وقد ذكر أهل الأخبار أسماء رجال منها تاجروا مع بلاد الشام، وكان "يهود" يثرب يتاجرون أيضًا، ويأتون إلى أهل "يثرب" بما يحتاجون إليه من تجارات. كما "كانت الساقطة تنزل المدينة في الجاهلية والإسلام يقدُمون بالبر والشعير والزيت والتين والقماش، وما يكون في الشام"١, وكانوا يتسقطون الأخبار وينقلونها إلى الروم عند ظهور الإسلام. فقدم بعض الساقطة المدينة، وأبو بكر ينفذ الجيوش، وسمعوا كلام أبي بكر لعمرو بن العاص، وهو يقول: عليك بفلسطين وإيليا، "فساروا بالخبر إلى الملك هرقل"٢, وتهيأ لملاقاة المسلمين.

ولم يذكر الرواة جنس هؤلاء "الساقطة"، الذين كانوا يأتون بالتجارة من بلاد الشام إلى المدينة، هل كانوا رومًا, أم عربًا، أم يهودًا، أم كانوا خليطًا من كل هؤلاء؟. على كلٍّ, كانوا تجارًا يأتون يثرب في الجاهلية لبيع ما يحملونه من تجارة، ولشراء ما يجدونه هناك، وبقوا شأنهم هذا إلى الإسلام، كما نرى من الخبر المتقدم.

هذا هو مجمل ما نعرفه عن تأريخ "يثرب" وهو شيء قليل، لا يكفي المتعطش لمعرفة تأريخ هذه المدينة التي تعد من المواضع المقدسة في الإسلام, ولا بد وأن يأتي يوم سنكتشف فيه الأقنعة عن تأريخ المدينة قبل الإسلام، وذلك حين يقوم المنقبون المتخصصون بالبحث في تربتها عن الماضي المستور الدفين.


١ الواقدي، فتوح "ص١٦", "طبعة بيروت ١٩٥٦م".
٢ الواقدي، فتوح "١٦ وما بعدها".

<<  <  ج: ص:  >  >>