للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ألسنتهم عن ألسنة أجدادهم، ولم تتأثر بأحرف الأعاجم المندسِّين في القرى والمدن والأرياف. فكان "سيبويه" مثلًا إذا استشهد بشاهد أشار إلى أنه من "العرب الذين ترضى عربيتهم" أو من "العرب الموثوق بعربيتهم"١, أو من "العرب الموثوق بهم"، أو من "فصحاء العرب". وكان يرى أن لسان أهل الحجاز هو "الأول والأقدم"٢, وكان علماء اللغة إذا اختلفوا في شيء من اللغة من ألفاظ أو قواعد، حكَّموا أهل البادية، أي: الأعراب, فيما شجر بينهم من خلاف، حتى وإن كان أولئك العلماء من أوثق الناس علمًا بعلم العربية، فحكموا الأعراب مثلًا في المناظرة اللغوية التي وقعت بين سيبويه والكسائي والأخفش في حضرة "يحيى بن خالد" مع أنهم أعلم الناس بعلوم العربية٣. وقد أورد "ابن النديم" أسماء عدد من "الأعراب" كان علماء العربية يلجئون إليهم في الملمات، ويأخذون عنهم، ويحكمونهم فيما يقع بينهم من خلاف، فهم "حكام" ذلك الزمن وقضاته، يحكمون في منازعات الناس في اللغة٤.

والحد الفاصل بين الحضارة والبداوة، هو طراز الحياة ونوعها؛ فالحضر أهل قرار، والأعراب ينتجعون ويتتبعون مساقط الغيث, يرعون الكلأ والعشب إذا أعشبت البلاد، ويشربون "الكرع" وهو ماء السماء، فلا يزالون في النجع إلى أن يهيج العشب من عام قابل وتنش الغدران، فيرجعون إلى محاضرهم على إعداد المياه٥, وحياتهم على الإبل فلا يعتنون بتربية ماشية غيرها. ومن هنا اقترنت البداوة بالبادية وبتربية الإبل, التي تنفرد عن غيرها من الحيوانات بقابليتها على المعيشة في البادية, وبقوة صبرها على تحمل الجوع والعطش أيامًا, بينما تقصر همم الحيوانات الأخرى عن مجاراتها في هذا الباب. ومن هنا نقصد بالأعراب البدو الحقيقيين أبناء البادية, وأصحاب الجمال الذين ينتجعون ويتتبعون مساقط الغيث ويشربون الكرع ويكون تماسهم بالحضارة والحضر قليلًا٦.


١ الكتاب "١/ ٩٣، ١٥٣، ٤٥١"، "٢/ ٢٦٤، ٤٢٣، ٤٥١".
٢ الكتاب "٢/ ٤١، ٤٢٤"، يوهان فك، العربية: دراسات في اللغة واللهجات والأساليب, "ص٥٠ وما بعدها", "تعريب عبد الحليم النجار".
٣ الفهرست "٨٢ وما بعدها".
٤ الفهرست "ص٧١ وما بعدها".
٥ تاج العروس "٥/ ٥١٩"، "نجع".
٦ De Vaux, Ancient IsraeI, P. ٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>