للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومجتمع اليمن المحتضر، مجتمع طبقي، تكوَّن من طبقات: طبقات رفيعة ذات منزلة ومكانة عالية، تتلوها طبقات أخرى أقل درجة ومنزلة حتى تنتهي بالطبقات الدنيا التي تكون قاعدة لهرم هذا المجتمع وسواد الناس. وهي طبقات تكاد تكون مقفلة، أو شبه مقفلة إن صح هذا التعبير، ولا سيما بالقياس إلى الطبقات الدنيا, التي تجنبت الطبقات التي هي فوقها التصاهر معها والاتصال بها، للفروق المنزلية التي تشعر بوجودها فيما بينها. ثم إن الناس فيها يرثون منازل آبائهم ودرجاتهم، فابن النجار نجار، وابن الحداد حداد في الغالب، وابن التاجر يرث عمل والده, ويستطيع تغيير حرفته وتحسين حاله، إذ ليس لديهم قوانين إلزامية تجبر الناس على البقاء في طبقتهم إلى أبد الآبدين، ولكن مثل هذا التغيير لا يقع إلا إذا كان الشخص ذا استعداد وكفاية وطموح، فيشق طريقه بنفسه هاتكًا ستور الأعراف والعادات.

وما زالت الحياة الاجتماعية في العربية الجنوبية، تستمد قوتها وحياتها من جذور الحياة الاجتماعية القديمة التي كانت عليها قبل الإسلام. فقد نشأت هذه الحياة ونبتت من حاصل ظروف ذلك المجتمع الذي تحدثت عنه، وحافظ على خصائصه إلى هذا اليوم؛ لأنه عاش في عزلة عن العالم الخارجي أو في شبه عزلة؛ ولهذا بقي يعيش على ما تغذيه به بقايا جذور تلك الأيام من غذاء١.

والحضر، وإن استوطنوا واستقروا في أماكن ثابتة، لم يكونوا حضرًا بالمعنى المفهوم من اللفظة عندنا، فلم يكونوا على شاكلة حضر الروم أو الفرس، ولا على شاكلة حضر العراق أو حضر بلاد الشام من غير العرب. إنهم حضر من ناحية السكنى والاستقرار، أي: من ناحية تعلقهم بالأرض ونزولهم بها واستيطانهم فيها، وعدم ارتحالهم عنها على نحو ما يفعل الأعراب، واتخاذهم مساكن دائمة في مكان ما. أما من ناحية التفكير وطراز المعيشة ونظم الحياة الاجتماعية, فقد بقوا مخلصين لمُثُل البوادي ولطبيعتها في الحياة, فهم في قراهم ومدنهم "بيوت" و"بطون"، يقيمون في "شعاب" ولهم عصبية، وهم مثل الأعراب في أكثر مألوف حياتهم. وما زال هذا الطابع الأعرابي باديًا على حياة من نسميهم الحضر في جزيرة العرب وفي خارجها، مؤثرًا في حياتهم السياسية والاجتماعية بل


١ Naval.,P. ٤٠٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>