وفي كل مجتمع من هذين المجتمعين تكوّن نظام من أنظمة الحكم يتناسب مع المحيط، لأنه نبات ذلك المحيط، وحاصله، وما ينبت في مكان ينبت وقد اكتسب خصائص التربة وخصائص الجو، وما يحيط بالنبات من مؤثرات طبيعية أو بشرية.
ومن هنا صارت "الرئاسة" قاعدة الحكم عند أهل الوبر، و"الملكية" و"رئاسة القرى والمدن"، أداة الحكم عند أهل المدر.
ولا ينال الحكم في المجتمعات البدوية وفي المجتمعات الصغيرة التي لم تبلغ مرحلة متقدمة من الحضارة، والتي لم تنل حظًّا من الغنى والمهارة في العمل وفي كثرة الإنتاج وتنويعه، إلا من كان ذا قابلية عالية وذو شخصية قوية، وذو أسرة متجانسة متآلفة متماسكة كثيرة العدد، وذا عشيرة أو قبيلة تندفع في تأييده لمزاياه المذكورة أو لخوفها منه، أضف إلى ذلك: العصبية والرغبة في كسب المال عن طريق الاندفاع معه في غزو القبائل الأخرى. فمجتمع من هذا النوع تكون قيادته بيد "سادته"، وقد يفرض أحدهم نفسه على الآخرين، طوعًا أو كرهًا فيكوّن حكومة تنسب في الغالب إليه، قد يطول أجلها إذا جاء من بعده حكام أكفاء لهم قابلية وشخصية، وقد تموت بموته، لعدم كفاءة من يخلفه، ولأنه كون دولته بشخصيته، وليس عن دوافع أخرى مثل إيمان بعقيدة وإخلاص لها، أو وجود وعي مشترك وحس بوجوب التكاتف والتآزر، لتأليف مجتمع متكاتف يعيش فيه المواطنون عيشة مؤاخاة ومواطنية بالعدل والإنصاف، حتى يطول عمر تلك الحكومة، ولما كانت تلك الدولة قد تكونت إما عن مصلحة أو عن خوف وقهر أو عن طمع، وقد زالت هذه بموت صاحبها، لذلك يصيبها التفكك وانهيار البناء. ومما يؤيد ذلك ردة من ارتد بعد وفاة الرسول عن الإسلام، فقد كانت حجتهم في ردتهم أنهم إنما بايعو الرسول وآمنوا به، ولم يبايعوا غيره. وبوفاته انتهى حكم البيعة، فلن يخضعوا لغيره ولن يدفعوا صدقة ولا زكاة ولن يطيعوا أحدًا. ولو لم يؤدبهم "أبو بكر"، بأدب القوة، لما عادوا ثانية إلى الإسلام.
وللحكم الملكي صلة كبيرة بحياة الاستقرار والاستيطان، فهو لا ينمو ولا يظهر إلا في المجتمعات المستقرة وفي المواضع الغنية بالماء وفي القرى والمدن. فنرى أن حكام قرى فلسطين ومدنها كانوا قد لقبوا أنفسهم بلقب "ملك" في أيام "إبراهيم" مع أنهم لم يكونوا إلا رؤساء قرى أو مدن وقد كان أكثرهم كهنة في الأصل،