ولم يكن من السهل على أبناء القبائل تقديم واجب الطاعة للملوك إذا كانوا من غير قبيلتهم، فالملوك الغرباء وإن كانوا عربًا مثلهم، لكنهم في نظرهم غرباء عنهم، ومن قبيلة بعيدة عنهم. والعربي بحكم طبيعة ظروفه ومحيطه القبليّ، لا يرى الخضوع إلا لمن تربطه به رابطة العصبية. ومعنى هذا أنه لا يخضع إلا لسيد قبيلته، أو لمن يخضع سيد قبيلته لحكمه أو للملك إذا كان من قبيلته.
وسيد القبيلة لا يخضع هو نفسه لأحد إلا إذا أكره على ذلك إكراهًا، أو وجد في خضوعه لحكم حاكم آخر منفعة ما تأتيه من هذا الحكم. فإن زالت القوة التي أكرهته على الخضوع لغيره، أو ذهبت المنفعة التي كان يحصل عليها، أعلن انفصاله واستقلاله بشئون قبيلته أو انضمامه إلى حاكم قوي آخر ليصير حليفًا له.
لذا صار تاريخ القبائل صراعًا ونزاعًا بين قبائل طامعة في حكم قبائل أصغر منها، وقبائل أخرى تريد أن تعيش وحدها مستقلة بإدارة أمورها، أو منافسة غيرها في حكم قبائل أخرى، لتكوين حكومة كبيرة منها ومن القبائل التي استسلمت لها.
فالممالك التي تكونت والتي تحدثت عنها، لم تكن إذن ممالك مكونة من مواطنين آمنوا بمبدأ المواطنة واعتقدوا بعقيدة طاعة سلطان الدولة. بل كانت مملكة قبائل اتحدت طوعًا أو كرهًا، وكونت حلفًا كبيرًا ترأسه ملك. يظل قائمًا ما دامت هنالك قوة قائمة ومصلحة وفائدة، فإن انتفت المصلحة، عادت طبيعة الأنانية القبلية إلى لعب دورها في الانفصال. وهي عقلية تعرقل وتقاوم تكوّن الدول الكبرى. ولهذا قاومها الإسلام؛ لأنه جاء بمبدأ "الجماعة"، وعقيدة "الأمة" و"الملة"، فورد في الحديث:"من خرج من الطاعة وفارق الجماعة ثم مات، مات ميتة جاهلية" ١.
وللشعراء وأهل البيان كلام في أصول سياسة الحكم وإدارة أمور الرعية. قال "الجاحظ": "ومتى أحب السيد الجامعُ، والرئيس الكامل قومه أشد الحب وحاطهم على حسب حبه لهم، كان بغض أعدائهم له على حسب حبه قومه له.
هذا إذا لم يتوثب إليه ولم يعترض عليه من بني عمه وإخوته من قد أطمعته الحال باللحاق به. وحسد الأقارب أشد، وعداوتهم على حسب حسدهم.