للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لفظة "أعرب" عليهم؛ لأنهم لم يكونوا في مستواهم وفي درجتهم في الحضارة.

هم مع ذلك وبوجه عام أرقى مستوى وأكثر إدراكًا من أعراب الحجاز ونجد. لقد وطنوا أنفسهم في أطراف الحواضر وعند مواضع الماء والخصب، وزرعوا ورَعَوا ماشية وأنعامًا، واستقروا في بيوت من مدر أو حجارة. وهي حياة لا يألفها البدوي القح. ولا يراها من مقوّمات البداوة. ثم إنهم لم يكونوا رحلًا على شاكلة أعراب الحجاز أو نجد أو بادية الشام. وإذا كنا نرى بعض قبائل اليمن، وهي ترحل من مواضعها، فرحيلها هذا هو عن سبب قاهر، مثل حروب أو كوارث طبيعية تجعل من الصعب علها البقاء في منازلها؛ فلا يكون أمامها للمحافظة على حياتها غير الرحيل إلى مكان آخر. إنهم بالقياس إلى عرب الحجاز أو نجد رعاة أو شبه أعراب١.

ومرجع هذه الفروق هو في التباين في الطبيعة. فطبيعة أرض اليمن مثلا طبيعة لطيفة خفيفة، الحرارة فيها معتدلة بوجه عام، والفروق في درجات الحرارة بين الصيف والشتاء، أو بين الليل والنهار ليست كبيرة متناقضة متعاكسة. والضغوط الجوية فيها معتدلة غير قلقة متغيرة بكثرة في اليوم أو في الشهر أو في السنة، والأمطار متوفرة بوجه عام، تزور اليمن في مواسم معينة، وجبال اليمن العالية جبال تقف شامخة عنيدة وفي وضع مناسب أمام الأبخرة المتصاعدة من البحار، حتى تضطرها إلى الهبوط غيثًا على اليمن يغيث الناس. ثم إن اليمن هضاب وأودية وتهائم، ومسايل طبيعية تقود السيول إلى أحواض حفرتها الطبيعة، وعلّمت هذه الطبيعة الإنسان على رفع حافّاتها لتحبس الماء في الأحواض، وعلى عمل فتحات فيها لخروج الماء منها وقت الحاجة. وهي غنية بالمعادن وبالحجر الصالح للبناء وبالأشجار التي غرزتها الطبيعة بيدها، وأرض على هذا النحو وعلى هذه الشاكلة لا بد وأن تؤثر على أجسام وعلى عقول أصحابها، فجعلتهم من ثَمّ من أنشط شعوب جزيرة العرب في ميدان العمل والحيلة في كسب العيش وفي إقامة المجتمعات وإنشاء حضارة، وفوّقتهم بذلك بوجه عام على سائر عرب جزيرة العرب، وصيّرتهم قوما لا يرون الاشتغال بالحِرَف عيبًا، ولا امتهان المهن العملية نقصًا. ولو كانت أرضهم على شاكلة أرض الحجاز أو نجد، ولو


١ Naval, p,, ٤٠٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>