للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

التي بلغتها قوتهم ووصل إليها سلطانهم الفعلي لا غير.

وإذا أردنا أن نتحدث بلغة هذا العصر عن أصول التشريع الجاهلي، أي: عن المنابع التي أمدت فقه الجاهلية بالأحكام، فإننا نرى أنها استمدت من العرف، ومن الدين، ومن أوامر أولي الأمر ومن أحكام ذوي الرأي.

أما "العرف"، فهو ما استقر في النفوس وتلقاه المحيط بالرضى والقبول، وسلم به وسار عليه في بعض الأحيان١. وذلك لأخذه طابع القانون من حيث لزوم التنفيذ والإطاعة. وهو معروف عند أكثر الشعوب، وقد اكتسبت بعض الأعراف درجة القوانين عند كثير من الأمم لمرور زمن طويل على استعمالها، ولتعارف الناس عليها، ولكونها معقولة منطقية لا تتعارض مع روح الزمن وعدالة التشريع.

وقد أشير إلى العرف في القرآن الكريم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} ٢. وقد ذهب بعض العلماء إلى أن المراد من "العرف" هنا: الإحسان٣. وقد ألغى الإسلام بعض العرف الجاهلي، وأقرّ بعضًا منه، لعدم تعارضه مع قواعد الدين.

ولا تزال القبائل تطبق "العرف العشائري" حتى اليوم في فَضِّ ما يقع بين أفرادها وبينها من خلاف وخصومات. وهي تتجنب جهد إمكانها مراجعة الحكومات؛ لأنها تنفر من تطبيق القوانين عليها، بالرغم من إلغاء "العرف العشائري" أو "القضاء العشائري" كما يعرف في بعض البلاد العربية، وعدم اعتراف تلك الحكومات به. وذلك لرسوخ هذا العرف في نفوسها، وظهوره من تربتها، ولكونه موروثًا من الآباء والأجداد، فهو أقرب إليهم وإلى نفوسهم من القوانين الحديثة، وإن كانت أقرب إلى الحق والعقل من العرف.

ولا تزال بعض مصطلحات العرف الجاهلي باقية حيَّة تستعملها القبائل حتى اليوم في الأغراض والمعاني التي كانت عند الجاهليين. وحبذا لو عني علماء القانون عندنا بضبط العرف المستعمل في بلاد العرب في الزمن الحاضر ودراسته دراسة


١ التعريفات، للجرجاني "ص١٥٤" "طبعة فلوكل".
٢ سورة الأعراف، الآية ١٩٩.
٣ المفردات، الراغب الأصفهاني "ص٤٢٥" "طبعة البابي".

<<  <  ج: ص:  >  >>