للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الجاهلية ولم يقصدوه. وما ذكر الدهر في الشعر، إلا كتشكي الناس من الزمان أو من الحظ أو النصيب في هذه الأيام، وشكواهم من ذلك لا يعني تجديد سلطان الله، أو نكرانه، وإنما هو بقية من تصور إنساني قديم بنسبة كل فعل وعمل إلى قوة خفية هي القوة العاملة، وهي ما عبرت عنها بالدهر وبالزمان. وذلك لما يتصورونه من مرور الأيام والسنين وبلاء الإنسان فيه، وبقاء الأرض والكون، ومثل هذه النسبة والشكوى عامة عند جميع الشعوب البدائية والمتطورة المتقدمة، فنراها عند القبائل البدائية ونراها عند الغربيين

ولا يقتصر هذا الاستعمال على الشعر وحده، بل نجد ذلك في النثر وفي كلام الناس الاعتيادي. لذلك لا أرى صحيحًا ما ذهب إليه بعض المستشرقين من أن نسبة الفعل إلى الدهر هو من الاستعمالات الخاصة بالشعر١.

وهناك كلمات أخرى تشير معانيها إلى هذه الفكرة فكرة القدر، وأن الخير والشر وكل ما يصيب الإنسان هو مقدر مكتوب. وهي نظرة لا بد أن تكون قد انبعثت من الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ومن أثر المحيط في الإنسان. ومن شعور الإنسان بأن قوى خفية تلعب به وتوجهه حيث يشاء٢.

فنسب كل ذلك إلى غيره، وصير نفسه مسخرًا موجهًا كالريشة في مهب الريح.

وتؤدي عقيدة القدر بصاحبها إلى التشاؤم، وإلى القنوط والاستسلام. والتوجع والتألم، والتشكي من عبث الدهر بالإنسان، وهو ليس له دخل في رده وصده وقد تؤدي بمعتنقها إلى الخمول والكسل، وإلى العجز في هذه الحياة، وإلى رد كل ما يصيبه بسبب كسله وعدم استخدام قابلياته ومواهبه إلى غدر الدهر به وحنق الزمان عليه، وتلاعب الحدثان بأموره. ونجد أكثر شعراء أهل الجاهلية، هم على هذه الشاكلة، يبكون أيامهم، ويتذكرون الماضي، ويتوجعون لأنهم سائرون نحو مستقبل مؤلم موجع، لا حول فيه لإنسان ولا قوة. إنه عالم الشيخوخة أو عالم الموت أو عالم الفقر. وأمثال ذلك من العوالم المفزعة. يستوي في ذلك امرؤ القيس والشعراء المخضرمون. فأنت إذا تصفحت دواوينهم قلما تجد فيهم شاعرًا متفائلًا، أو شاعرًا غير مبال بالأيام، لا يهمه ما يأتي به الدهر، حتى


١ Kaske, S. ٥٤.
٢
والمال ما خول الإله فلا ... بد له أن يحوزه قدر
شرح ديوان زهير "ص٣١٤".

<<  <  ج: ص:  >  >>