إن بقاء النصرانية في نجران وفي مواضع من اليمن وأنحاء أخرى من جزيرة العرب، وبقاء اليهود في اليمن إلى زمن غير بعيد، يشير إلى أن ما ذهب إليه كثير من المؤرخين من إجلاء أهل الكتاب بأمر الخليفة "عمر" عن جزيرة العرب ثم بقية الخلفاء الذين ساروا على حكم: "لا يجتمع دينان في جزيرة العرب" فيه مبالغة١. والظاهر أن الإجلاء كان قاصرا على الموضع التي تعرضت فيها جاليات أهل الكتاب فيها للإسلام بسوء. فطبق على جاليات يهود يثرب ومن كان يسكن إلى الشمال منهم، لوقوفهم موقفا معاديا شديدا من الإسلام، ولعملهم في إثارة الفتن على المسلمين. ومن يدري فلعلهم ولعل أهل الكتاب عمومًا ساعدوا في قيام الردة وتشجيع المتنبين والمرتدين للقضاء على الخطر الذي زعموه، خطر ظهور الإسلام وانتشاره في جزيرة العرب وفي خارجها، وقيام دولة موحدة كبيرة فيها ومن يدري أيضًا، فلعل الروم والأحباش كانوا أيضًا في جملة من كان يحرض أهل الكتاب على الدس للإسلام، وأن بعض من أعلن الردة مثل "النعمان بن الغرور" وهو نصراني، وغيره ما حمل الخليفة على اتباع قاعدة إجلاء الدساسين من أهل الكتاب مهما كان نوعهم عن جزيرة العرب لحماية الإسلام من خطر الفتنة ومن الردة، ولم تكن قواعده قد تركزت واستقرت استقرارًا تامًّا بعد.
إن الذي افهمه من سياسة إجلاء "عمر" لأهل الكتاب، هو أن ذلك الإجلاء كان خاصًّا بالجاليات اليهودية التي كانت تقيم فيها بين فلسطين ويثرب، وقاصرا عليها، بسبب وقوفعها موقفا معاديا من الإسلام، أما النصارى فلم تكن لهم جاليات هناك، فلم يقع إجلاء لهم فيها. ولكن "عمر" ومن جاء بعده لم يطيقوا الإجلاء على الأسر والأفراد، بدليل ما نجده في أخبار أهل الأخبار من وجود أسر وأفراد من يهود ونصارى في يثرب وفي مكة وفي الطائف بعد وفاة عمر.
أما في غير الحجاز من بقية أنحاء جزيرة العرب، فلم يطبق قانون "عمر" على أهل الكتاب، بدليل دفع جالياتهم "الجزية" عن رءوسهم في أيامه إلى وفاته، ثم في أيام من جاء بعده من الخلفاء. فكأن الخليفة، قد طبق أمر الإجلاء على
١ "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأخرجن اليهود والنصارى عن جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلمًا"، البلدان "٨/ ٢٦٣".