للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأنه لما كتب إلى "عمرو بن العاص"، يسأله عن البحر، فقال: خلق عظيم يركبه خلق ضعيف، دود على عود. كتب إليه "عمر" أن لا يركبه أحد طول حياته، فلما كان بعد "عمر" لم يزل يركب حتى كان زمن "عمر بن عبد العزيز"، فاتبع فيه رأي "عمر". وكان منع عمر شفقة على المسلمين١.

وقد عرف العربي عند الأعاجم ببغضه للبحر وبخوفه منه وبابتعاده عنه. ورد في حكم "أحيقار": "لا تر العربي البحر، ولا تر الصيدوني "الصيداني" الصحراء"٢. وذلك لاشتهار العربي عندهم بسكنه في البوادي وبابتعاده عن البحر ولاشتهار أهل "صيدا" بركوبه وبقهر أمواجه.

وإذا كنا قد فشلنا في الحصول على صورة مفصلة واضحة عن العرب والبحر من الموارد التي أشرت إليها، وهي مادة المؤرخ في حصوله على مادته التأريخية، فليس لنا من سبيل لتكوين صورة ولو باهتة عن الموضوع، سوى الرجوع إلى اللغة نستلهم من ألفاظها المتعلقة بالبحر وبوسائل ركوبه، ما فات وروده في تلك المصادر. فاللغة كما نعلم مظهر من مظاهر الحياة العقلية والعملية لكل أمة، وهي لم تخلق دفعة واحدة، ولم يأخذها الخلف عن السلف كاملة، وإنما خلقت بالتدريج وعلى قدر الحاجة، فإذا ظهرت أشياء جديدة خلق المتكلمون بها لها ألفاظًا جديدة وإذا اندثرت أشياء، فقد تندثر ألفاظها. واللغة مثل الناطقين بها في حياة وموت مستمرين. وإذا حصرنا الألفاظ التي أطلقها الجاهليون على البحر وعلى وسائل ركوبه وعلى ما فيه، نستطيع إذن أن نعرف ماذا كانوا يعرفونه عنه وماذا كانوا يجهلون من أمره.

فنأخذ الألفاظ المتعلقة بالبحر إذن سندًا لنا، من لغتنا العربية نستنبط منها علم الجاهليين به، مع العلم بأن هذه اللغة التي نزل بها القرآن الكريم لا يمكن أن تؤدي المهمة على أحسن وجه؛ لأنها لغة أهل بر، وليس لأهل البر علم أهل الساحل به. والأحرى بنا الاستعانة بلغات أهل السواحل في مثل هذه الدراسة، لكننا لا نملك نصوصًا جاهلية مدونة بها، حتى نستنبط منها ما نريد، وليس في لهجات المسند عن البحر سوى نزر يسير، ولكنا ما دمنا لا نملك وسيلة للإحاطة


١ إرشاد الساري "٤/ ١٥".
٢ A. T. Olmstead, History Of The Persian Empire, P.٣٢٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>