للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكانت الحكومات تسرف في استخدام السخرة وتشتطّ، فتنجز بالسخرة كثيرًا من الأعمال التي هي من صميم عملها وواجبها, ولن يتأثر بالسخرة إلا الطبقات الفقيرة التي لا تملك دفاعًا عن نفسها، ولا تجد من يساعدها ويعاونها. أما سادات القبائل ووجوه البلد والأشراف وأصحاب الأرض، فلا تقع السخرة عليهم، وإنما يرسلون ما يطلب منهم من أتباعهم للقيام بالأعمال المطلوبة، وقد يسخرونهم لأداء أعمال خاصة بهم، لا صلة لها ولا علاقة بالأعمال العامة وبالنفع العام. ثم إن مفهوم القيام بالأعمال العامة وبالاشتغال بمشاريع النفع العام، لا يطبق لدى هذه الحكومات ولدى بعض الحكومات حتى في هذه الأيام إلا على هذه الطبقات الفقيرة، فعليها وحدها القيام بهذه الواجبات. ومثل هذه النظرة إلى السواد الأعظم من الأمة، جعل هذا السواد يكره حكوماته، ويكره الحاكمين، ويتهرب من الخدمة ما أمكنه ذلك؛ لأنه لا يشعر بحكومة تعطف عليه، ولا بحاكمين ينظرون إلى مصالحه، وإنما هم ينظرون إلى أنفسهم على أنهم هم الناس، وأما أبناء الشعب فإنما خُلِقُوا لخدمتهم ليس غير.

ولما قام أبرهة بإصلاح سد "مأرب"، طلب من الأقيال وسادات القبائل وأصحاب الأرض مده بالمسخرين، فأرسلوا إليه ما طلب منهم، واشتغلوا في إصلاح السد وفي العمل على رتق ما صدع منه. فقاموا بنقل الحجارة الصلدة من مواضع مقالع الحجر، وعملوا مسخرين في أعمال البناء، ولم يدفع لهم شيئًا سوى الأكل، وقد بقوا هناك حتى تم العمل، فسمح لهم بالعودة إلى ديارهم.

والمفروض في أخذ المسخرين من المدن والقرى والقبائل، أن يكون ذلك متناسبًا مع عدد السكان، وعدد رجال القبيلة. فالمدينة الكبيرة تقدم عددًا يزيد على ما تقدمه المدينة الصغيرة أو القرية, والقبيلة الكبيرة تقدم عددًا يزيد على عدد ما تقدمه القبيلة الصغيرة، غير أن ذلك لا يطبق بصورة عملية، فالعادة أن تفرض الأعمال الشاقة على الضعفاء والفقراء، ورُبَّ قرية تقدم من المسخرين ما يزيد على ما تقدمه مدينة كبيرة. وهكذا الحال بالنسبة إلى القبائل الضعيفة والقبائل القوية.

<<  <  ج: ص:  >  >>