كتبت في تقديم نذور، وفي معاملات: من بيع وشراء، وتثبيت ملك، أو تحديد حدود، أو في قوانين وأوامر، ولم تكتب في أغراض أدبية خالصة.
وبين أيدينا خطب طويلة ومتوسطة وقصيرة، نسبها الرواة إلى خطباء جاهليين، زعموا أنهم كانوا في أيامهم آية في الفصاحة والبلاغة والبيان، وأساطير وقصص زعم أهل الأخبار أنها أخبار صحيحة وروايات مروية، وأصول منافرات ومفاخرات ومعاتبات ومشاتمات، زعموا أنها جرت في الجاهلية، وانتقلت أصولها بنصها وفصها وحروفها وكلمها من رواتها إلى الإسلاميين، فدوّنت في كتبهم، كما رووا حكمًا وأمثالًا وأقوالًا، زعموا أنها لحكماء من أهل الجاهلية حفظها الناس حفظًا، ورووها رواية رجلًا عن رجل، وجيلًا عن جيل، حتى وصلت مرحلة التدوين. وكل هذا المسجل الذي نتحدث عنه، هو من مدوّنات أهل الإسلام، ليس فيه من مدوّنات أهل الجاهلية أي شيء.
وبين هذا النثر، خطب منمقة مزوّقة، نسبت إلى ملوك وسادات العرب البائدة، الذين بادوا قبل الإسلام بعهد طويل، ومات معهم أدبهم بالطبع، وخطب نسبت إلى التبابعة، وقد هلكوا أيضًا قبل الإسلام، وكلام نسب إلى أنبياء جاهليين، وإلى الجن أيضًا، رواه أهل الأخبار، دون أن يكلفوا أنفسهم مشقة الإفصاح عن كيفية وصول تلك الخطب وذلك الكلام إليهم، مع أنهم كرروا القول بأن كلام بعضهم كان كلامًا آخر يخالف كلامنا، وأن عربيتهم لا تشاكل عربيتنا، فكيف نقلوها ودوّنوها إذن في الإسلام؟ إن نثرًا من هذا النوع هو نثر مصطنع بالطبع صنع على لسان أولئك الماضين، من غير شك ولا شبهة، فهو من هذه الناحية مكذوب مرفوض.
وأما النثر المنسوب إلى العرب الذين عاشوا قبيل الإسلام، أو أدركوا الإسلام، فالصحيح فيه أقل من المصنوع، خاصة نصوص الخطب والحكم والمواعظ، والقصص والأيام، والوفادات والخطب الطويلة؛ لأن من المستحيل على الذاكرة، حفظ الكلام المنثور بالحروف والكلمات حفظ أشرطة التسجيل له أو للغناء أو الموسيقى، مهما وهب الله تلك الذاكرة من قوة في قدرة الأخذ والحفظ. ثم هي إذا حفظته اليوم، فلا بد وأن تتعثر به غدًا، ثم يزداد تعثرها به بعد ذلك. هذا رسول الله يذكر "قس بن ساعدة الإيادي"، فيقول: "رحم الله قسًّا كأني أنظر