للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولهذا كانوا لا يختارون لمن يتكلم باسم قومه إلا من عرف بسحر لسانه وقوة بيانه، ليتمكن بما وهب من مرونة وتفنن في كلامه من التغلب على خصمه وإفحامه، ولما مات "أبو دليجة" "فضالة بن كلدة" رثاه "أوس بن حجر" بكلمة مؤثرة تعبر عن مبلغ شعوره وشعور قومه للفاجعة الأليمة التي جعلت قوم الخطيب في لبس وبلبال، لعدم وجود من سيحل محله في الدفاع عنهم، إذ حفلوا لدى الملوك، فيقول:

أبا دليجة من يكفي العشيرة إذ ... أمسوا من الخطب في لبس وبلبال

أم من يكون خطيب القوم إذ حفلوا ... لدى الملوك ذوي أيد وأفضال١

وندخل في الخطباء جماعة عرفت بإلقاء المواعظ والنصائح في أمور الدين والأخلاق والسلوك وفي التفكير، وهم قوم تأثروا بالمؤثرات الثقافية التي كانت في أيامهم بسبب وجود اليهود والنصارى بينهم، وبسب اتصالهم بالرهبان والمبشرين في داخل جزيرة العرب وفي خارجها، فأخذوا يحثون قوهم على التعقل والتأمل والتفكر في أمور دينهم ودنياهم، وترك ما هم عليه من عبادة الأصنام والتقرب إلى الأوثان، وهي حجارة صلبة، أو من خشب أو معدن لا يسمع ولا يجيب.

وينسب إليهم، أنهم كانوا على دين إبراهيم، على ألسنة العربية الأولى دين الفطرة دين التوحيد. وينسب إليهم أيضًا، أنهم كانوا يقرأون ويكتبون، لا بالعربية وحدها، بل بالعبرانية والسريانية أيضًا، وأنهم كانوا يتدارسون التوراة والإنجيل وكتب الأنبياء، إلى غير ذلك من دعاوى قد تكون وضعت عليهم. وهم قوم سبق أن تحدثت عنهم، وقلت عنهم أنهم الأحناف.

وإذا درسنا الأغراض التي توخاها أهل الجاهلية من الخطابة، نجدها تكاد تتجمع في الأمور الآتية: التحريض على القتال، وإصلاح ذات البين، ولمّ شعث، لكثرة ما كان يقع بينهم من تنافر وتشاحن، ثم السفارات إلى القبائل أو الملوك، لأغراض مختلفة، مثل التهنئة والتعزية، أو طلب حاجة، وحلّ معضل، أو إنهاء خصومة، ثم الجلوس لحل الديات وإنهاء نيران الثأر، ثم التفاخر والتنافر والتباهي بالأحساب والأنساب والمآثر والجاه والمال، ثم في الوفادات حيث تقتضي


١ كارلو نالينو "٩٨"، ديوان أوس "١٠٣"، نقد الشعر لقدامة "٣٥".

<<  <  ج: ص:  >  >>