للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ليس النمط واحدًا، ترى قطعة ديباج، وقطعة مسيح، وقطعة نطع. هذا مذهب أبي عمرو وأصحابه: الأصمعي، وابن الأعرابي، أعني أن كل واحد منهم يذهب في أهل عصره هذا المذهب، ويقدم مَنْ قبلهم، وليس ذلك الشيء إلا لحاجتهم إلى الشاهد، وقلة ثقتهم بما يأتي به المولدون ثم صارت لجاجة"١.

وقد رجع الجاحظ سبب هذا الركض وراء الشعر الجاهلي إلى لجاجة علماء اللغة في البحث عن كل شعر يستفاد منه في الشواهد، إذ يقول: "ولم أَرَ غاية النَّحْويين إلا كل شعر فيه إعراب، ولم أَرَ غاية رواة الأشعار إلا كل شعر فيه غريب أو معنى صعب يحتاج إلى الاستخراج، ولم أر غاية رواة الأخبار إلا كل شعر فيه الشاهد والمثل"٢. ويقول: "طلبت علم الشعر عند الأصمعي، فوجدته لا يعرف إلا غريبه، "الألفاظ والمعاني العربية"، فسألت الأخفش، فلم يعرف إلا إعرابه، فسألت أبا عبيدة فرأيته لا ينفذ إلا فيما اتصل بالأخبار، ولم أظفر بما أردت إلا عند أدباء الكتاب، كالحسن بن وهب وغيره"٣.

لقد كان القدم، هو المقياس الأول في تقدير الشعر في ذلك الحين. فالشعر القديم محبوب مطلوب مقدم على الحديث، مهما كان في الشعر الحديث من إبداع في المعنى وفي القالب. قال عبد الله التميمي، "كنا عند ابن الأعرابي، فأنشده رجل شعرًا لأبي نواس أحسن فيه فسكت. قال له الرجل: أما هذا من أحسن الشعر؟ قال: فقال: بلى، ولكن القديم أحب إلي"٤.

وقد بلغ من تعظيم بعضهم للقديم، أنهم كانوا يرون المعاني على مقادير أصحابها من الشعراء، فالمعنى الذي يكون لامرئ القيس يكون كامرئ القيس في اعتباره وإجلاله وتحاميه أن يتلقى بالرد والمواجهة، ولذا فشا الغلط بينهم في تفسير الشعر وأخذ منه التصحيف كل مأخذ٥.

فالقدم وحاجة العلماء إلى الشعر القديم للاستشهاد به، والبحث عن الغريب، كانت كلها من العوامل التي أعطت للشعر القديم منزلة لم ينلها شعر المعاصرين،


١ العمدة "١/ ٩٠ وما بعدها"، الخزانة "١/ ٣ وما بعدها".
٢ البيان "٤/ ٢٤".
٣ الرافعي "١/ ٤٢١"
٤ الموشح، للمرزباني "٣٨٤".
٥ الرافعي "١/ ٤٢٠".

<<  <  ج: ص:  >  >>