ولست مع الحافظ ابن حجر في هذا الرأي، فإن حكم الرسول صلى الله عليه وسلم بالخروج مشروط بشروط، والحكم إذا كان مشروطا يتغير إذا اختلت الشروط، وعائشة رأت في زمانها اختلال الشروط، وكون الرسول صلى الله عليه وسلم لم ير ولم يمنع لا يوجب على من بعده استمرار الحكم، وكون عائشة لم تصرح بالمنع ليس دليلا على عدم المنع، بل يكفي إشعار كلامها بأنها ترى المنع، وأما أن الله يعلم ما سيحدث فهذا مسلم وبين، ولكن قوله: فما أوحى إلى نبيه بالمنع غير مسلم، لأنه أوحى إلى نبيه بالمنع، ففي روايتنا العاشرة "أيما امرأة أصابت بخورا فلا تشهد معنا العشاء الآخرة" والحافظ ابن حجر نفسه يقول: ويلحق بالطيب ما في معناه لأن سبب المنع منه ما فيه تحريك الشهوة كحسن الملبس والحلي الذي يظهر والزينة الفاخرة والاختلاط بالرجال. اهـ.
وأما ربطه بين المنع من المساجد والمنع من الأسواق فمسلم، ونحن نرى المنع منهما معا، وأما كون وقوع الإحداث من البعض يجعل المنع خاصا بهذا البعض فغير مسلم، لأن الشرع يعطي الحكم للعموم إذا وقع من البعض واحتمل وقوعه من البعض الآخر، فما وقع من أحد المثلين جاز وقوعه من الآخر، وفي الباب السابق حديث نهي النساء عن أن يرفعن رءوسهن حتى يرفع الرجال، مخافة أن يروا عورة الرجال، مع أن الاحتمال خاص بالبعض وصدر النهي للكل، لا لمن أحدثت النظرة إلى العورة. والله أعلم.
بقي الكلام على خروج النساء لغير المساجد، كالأسواق والعمل في المكاتب والمدارس وغيرها وواضح أن الحكم لا يختلف، بل إن الخروج إلى المساجد أبعد من الفتنة والريبة من الخروج إلى غير المساجد، لأن المفروض في أهل المساجد التقوى والعبادة عكس أهل الأسواق وغيرها، فضلا عن أن المساجد تمنع الاختلاط وتوجب وضع النساء خلف الرجال.
-[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]-
١ - قال النووي: استدل به على أن المرأة لا تخرج من بيت زوجها إلا بإذنه، لتوجه الأمر إلى الأزواج بالإذن. ويتقوى هذا بأن يقال: إن منع الرجال نساءهم أمر مقرر، وإنما علق الحكم بالمساجد لبيان محل الجواز، فيبقى ما عداه على المنع.
٢ - ويؤخذ من الحديث نهي الأزواج عن منع نسائهم من الخروج إلى فعل واجب كأداء شهادة، أو أداء فريضة حج، أو زيارة آبائهن وأمهاتهن وذوي محارمهن، لأنه إذا نهوا عن منعهن من شهود الجماعة في المسجد وهو سنة فالنهي عن منعهن من أداء واجب من باب أولى.
٣ - يؤخذ من إنكار عبد الله بن عمر لابنه تأديب المعترض على السنن، وبلال عارض الخبر برأيه، وكأنه قال ذلك لما رأى من فساد بعض النساء في ذلك الوقت، وحملته الغيرة المحمودة على ذلك، وليس إنكار أبيه موجهاً إلى هذه الغيرة، بل لتصريحه بمخالفة الحديث، فلو أنه قال مثلاً: إن الزمان قد تغير، وإن بعضهن ربما ظهر منه قصد المسجد وإضمار غيره، ربما لم يكن أنكر عليه أبوه ولا عنفه هذا التعنيف، فقد أشارت عائشة بنحو هذا الكلام في الحديث.