للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

الغناء إنما كان في الشجاعة والقتل والحذق في القتال، ونحو ذلك مما لا مفسدة فيه، بخلاف الغناء المشتمل على ما يهيج النفوس على الشر، ويحملها على البطال والقبيح. قال القاضي: إنما كان غناؤهما بما هو من أشعار الحرب، والمفاخرة بالشجاعة، والظهور والغلبة، وهذا لا يهيج الجواري على شر، ولا إنشادهما لذلك من الغناء المختلف فيه، وإنما هو رفع الصوت بالإنشاد، ولهذا قالت: "وليستا بمغنيتين" أي ليستا ممن يتغنى بعادة المغنيات من التشويق والهوى، والتعريض بالفواحش، والتشبيب بأهل الجمال وما يحرك النفوس، ويبعث الهوى والغزل، كما قيل: الغناء فيه الزنا. وليستا أيضاً ممن اشتهر وعرف بإحسان الغناء الذي فيه تمطيط وتكسير وعمل يحرك الساكن، ويبعث الكامن، ولا من اتخذ ذلك صنعة وكسباً، والعرب تسمى الإنشاد غناء، وليس هو من الغناء المختلف فيه، بل هو مباح، وقد استجازت الصحابة غناء العرب الذي هو مجرد الإنشاد والترنم، وأجازوا الحداء وفعلوه بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذا كله إباحة مثل هذا وما في معناه، وهذا مثله ليس بحرام، ولا يجرح الشاهد. اهـ.

وقال الحافظ ابن حجر: واستدل جماعة من الصوفية بحديث الباب على إباحة سماع الغناء، وسماعه بآلة وبغير آلة، ويكفي في رد ذلك تصريح عائشة بقولها: "وليستا بمغنيتين". فنفت عنهما من طريق المعنى ما أثبتته لهما باللفظ. ثم قال: قال القرطبي: قولها: "ليستا بمغنيتين". أي ليستا ممن يعرف الغناء كما يعرفه المغنيات المعروفات بذلك، وهذا منها تحرز عن الغناء المعتاد عند المشتهرين به وهو الذي يحرك الساكن، ويبعث الكامن، وهذا النوع إذا كان شعراً فيه وصف محاسن النساء والخمر وغيرهما من المحرمات لا يختلف في تحريمه، لكن النفوس الشهوانية غلبت على كثير ممن ينسب إلى الخير، حتى لقد ظهرت من كثير منهم فعلات المجانين والصبيان، حتى رقصوا بحركات متطابقة وتقطيعات متلاحقة، وانتهى التواقح بقوم منهم إلى أن جعلوها من باب القرب وصالح الأعمال والله المستعان. اهـ.

وقال الخطابي: وأما الترنم بالبيت والبيتين وتطريب الصوت بذلك مما ليس فيه فحش أو ذكر محظور فليس مما يسقط المروءة، وحكم اليسير منه خلاف حكم الكثير. اهـ.

وقد اشتهر عن الإمام الغزالي أنه يبيح الغناء، وقد أطال القول في حكم السماع في كتابه الإحياء ننقل نبذاً منه، ثم ننظر الرأي فيها، ومن أراد المطول فليرجع إليه، والله المستعان.

قال: اعلم أن السماع هو أول الأمر، ويثمر السماع حالة في القلب تسمى الوجد، ويثمر الوجد تحريك الأطراف، إما بحركة غير موزونة، فتسمى الاضطراب، وإما موزونة فتسمى التصفيق والرقص ... ثم عرض لمذاهب العلماء في السماع فقال:

أما نقل المذاهب فقد حكى القاضي أبو الطيب الطبري عن الشافعي ومالك وأبي حنيفة وسفيان وجماعة من العلماء ألفاظاً يستدل بها على أنهم رأوا تحريمه، ثم أخذ يسرد ألفاظهم ليوجهها فيما بعد على أنها لا تدل على التحريم، فقال:

<<  <  ج: ص:  >  >>