وكم وفى جرير بما عاهد عليه الله ورسوله، وكم بالغ في الوفاء، فقد روي أنه كان إذا اشترى شيئا أو باعه يقول لصاحبه: اعلم أن ما أخذنا منك أحب إلينا مما أعطيناكه، فاختر.
وروى الطبراني أن جريرا أرسل غلامه فاشترى له فرسا بثلاثمائة درهم، وجاء به وبصاحبه لينقده الثمن فقال جرير لصاحب الفرس: فرسك خير من ثلاثمائة درهم، أتبيعه بأربعمائة درهم؟ قال الرجل: ذلك إليك يا أبا عبد الله، فقال جرير: فرسك خير من أربعمائة درهم، أتبيعه بخمسمائة درهم، قال الرجل: ذلك إليك يا أبا عبد الله، فلم يزل يزيده مائة فمائة، وصاحبه يرضى، وجرير يقول: فرسك خير، إلى أن بلغ ثمانمائة درهم، فاشتراه بها، فقيل له في ذلك، فقال: إني بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم.
وهكذا كانت عهود المسلمين، وهكذا كان وفاؤهم بها {ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما}[الفتح: ١٠].
-[المباحث العربية]-
(بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم) المبايعة عبارة عن المعاهدة سميت بذلك تشبها بالمعاوضة المالية، كأن المعاهد على الطاعة يبذلها في مقابلة الأجر الأخروي، كما في قوله تعالى:{إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة}[التوبة: ١١١].
فالمعنى: عاهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم.
(على السمع والطاعة) لله ولرسوله ولأولي الأمر، عملا بقوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}[النساء: ٥٩].
(فلقنني فيما استطعت) أي لقنني عبارة "فيما استطعت" لأقولها بعد عبارة "بايعتك على السمع والطاعة" أي: أسمع وأطيع فيما أستطيع: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}[البقرة: ٢٨٦].
وتاء "استطعت" رويت بالضم على أنها للمتكلم جرير، ورويت بالفتح على أنها من كلام النبي صلى الله عليه وسلم خطابا لجرير، وكلاهما صحيح.
وعائد الصلة مفعول "استطعت" محذوف.
(والنصح لكل مسلم) معطوف على "السمع والطاعة" وجملة "فلقنني: فيما استطعت" معترضة.