وذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد في الأصح عنه إلى أن دفن الميت بالليل يجوز، واحتجوا بما ثبت من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفن ليلاً، وأن عمر دفن أبا بكر ليلاً، ثم دخل المسجد فأوتر، وأن علي بن أبي طالب دفن فاطمة ليلاً، وبما رواه أبو داود عن جابر بن عبد الله قال: "رأى ناس ناراً في المقبرة فأتوها فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبر، وإذا هو يقول: ناولوني صاحبكم، فإذا هو الرجل الذي كان يرفع صوته بالذكر".
وأجابوا عن حديثنا بأجوبة:
منها أن القصد من هذا النهي أن لا يتساهل الناس في أكفان موتاهم، فإن قوماً كانوا يسيئون أكفان موتاهم فيدفنونهم ليلاً، فنهوا عن ذلك.
وارتباط الدفن ليلاً بالكفن غير الطائل في الحديث يشير إلى ذلك.
ومنها أن النهي عن الدفن بالليل كان لإتاحة الفرصة لأكبر عدد من المسلمين ليصلوا على الميت، إذ الدفن نهاراً يحضره كثيرون من الناس بخلاف الليل. قال القاضي: العلتان صحيحتان. قال: والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم قصدهما معاً. اهـ.
ومنها: أن النهي كان لإتاحة الفرصة لأن يصلي على المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما يكون لهم في ذلك من الفضل والخير ببركة صلاته عليهم، فإن صلاته عليهم بركة ورحمة ونور في قبورهم، كما ورد في الحديث، ويرشح هذا الحديث الصحيح في المرأة السوداء التي دفنت ليلاً، فسأل عنها، قالوا: توفيت ليلاً فدفناها في الليل. قال: "ألا آذنتموني؟ ". قالوا. كانت ظلمة. قال: "دلوني على قبرها". فذهب فصلى عليها، فلم ينكر عليهم دفنها ليلاً، وإنما كان همه الصلاة عليها. والله أعلم.
(ملحوظة) هناك بعض الأحكام المتعلقة بالموضوع لم تتعرض لها أحاديث الباب ومن تمام الفائدة ذكرها، منها:
١ - ينبغي أن يبادر الورثة إلى قضاء دينه، وتنفيذ وصيته.
٢ - يستحب تليين مفاصله بعد الموت وبعد الغسل.
٣ - ما ذكر بشأن غسل الميت، إنما هو في حق غير الشهيد في قتال الكافرين لأنه لا يغسل إلا إذا كان جنباً فيغسل عند أحمد وأبي حنيفة.
٤ - وكذا لو احترق مسلم، أو قدم العهد بموته، ولو غسل لتهرى، فإنه لا يغسل حينئذ، بل ييمم إن أمكن. بخلاف ما لو كان على بدنه قروح وخيف من غسله تسارع البلى إليه بعد الدفن، فإنه يغسل، ولا مبالاة بما يكون بعده، فالكل صائرون إلى البلى.
٥ - اشترط العلماء فيمن يغسل المسلم أن يكون مسلماً وأن لا يكون قاتلاً للميت.
٦ - وقالوا: ينبغي أن يكون الغاسل أميناً، لأنه لو لم يكن أميناً لم نأمن من ألا يستوفي الغسل، وربما ستر ما يظهر من جميل، أو يظهر ما يرى من قبح.