للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

يقع في نفس كل منهما أنه مظلوم، ويخطر في نفس المالك أن العامل يأخذ أكثر من الحق. ويخطر في نفس العامل أن المالك يتهرب من الحق، فيشكو كل منهما الآخر.

فماذا يفعل المشرع والحاكم أمام هذه الشكاوي؟ إنه لم يأل جهداً في وصيته لهم حين يبعثهم، لدرجة أن يطلب منهم الدعاء لرب المال بالبركة والإخلاف، ولا يدخر وسعاً في مراقبة تصرفاتهم ومحاسبتهم، لكن الطرف الثاني في حاجة إلى التنبيه والوعظ والتذكير والإيقاظ، إنه في حاجة إلى أن يواجه شح نفسه، ويهذب من حرصه، ويروض طباعه وسلوكه على السخاء والبذل وحسن الأداء والعطاء" {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} [الحشر: ٩].

إن النفس البشرية جبلت على حب الأخذ دون الإعطاء، وهي حين تدفع الزكاة يغيب عنها أنها تأخذ أكثر مما تعطي، يغيب عنها أنها تأخذ عشرة أمثال ما تعطي، يغيب عنها أن الصدقة تقع في يمين الرحمن قبل أن تقع في يد آخذها، فيربيها -جل شأنه- لصاحبها حتى تكون مثل الجبل، يغيب عنها أن إرضاء الآخذ إرضاء للرب سبحانه وتعالى.

من هنا كانت أحاديثنا توصي رب المال بإرضاء السعاة، وإذا أمعنا النظر وجدنا إرضاء السعاة في مصلحة المالك نفسه وليس في مصلحة السعاة.

لنفترض حين الاختلاف والشكوى. لنفترض السعاة على صواب مرة وعلى خطأ مرة أخرى، ثم ننظر من المستفيد؟ حين يكون السعاة على حق فيما أخذوا ستخلو عهدة المالك، وينجو من النار، ويثاب ولو رغم أنفه.

وحين يكون السعاة على خطأ وقد أخذوا أكثر من الحق، سيضيع على المالك نفع دنيوي، وسيعطى بدله نفعاً أخروياً، سيكون قد اشترى كثيراً بقليل {قل متاع الدنيا قليل} [النساء: ٧٧] ودائماً بزائل، بل لن يضيع عليه نفع دنيوي في حقيقة الأمر وإن ظن ذلك صورة وشكلاً، فالزكاة نماء لا نقص، لأن الله تعالى يمحق الربا ويربي الصدقات، {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين} [سبأ: ٣٩].

فهل يوصي المشرع السعاة بالتساهل مع أرباب الأموال، أو يوصي أرباب الأموال بإرضاء السعاة والمسارعة إلى الاستجابة لهم؟ أي الأمرين خير لأرباب الأموال؟ .

لقد اختار المشرع ما هو خير لهم، فقال: "ارضوا مصدقيكم". السعاة الذين يحملون صدقتكم، واستجاب الصحابة لهذه الوصية إذ عرفوا أنها في صالحهم، وها هو الصحابي الجليل جرير بن عبد الله راوي الحديث يقول: "ما صدر عني مصدق، وما انصرف عني ساع، وما رحل من عندي عامل زكاة بعد أن سمعت هذا الحديث -إلا وهو عني راض".

رضي الله عنهم أجمعين، وصلى وسلم على مبلِّغ الرسالة الأمين.

<<  <  ج: ص:  >  >>