وهذا تحكم، فللروايات الأولى معنى مستقل "فاقدروا له" يختلف تماماً عن معنى "فأكملوا العدة" إذ إكمال العدة لا يحتاج إلى تقدير، فلم لا نجعل الروايتين لحالتين، حالة يمكن معها التقدير الحسابي لوجود علمائه وحالة يصعب معها التقدير الحسابي فتكمل العدة، ويصبح المعنى فاقدروا له بالحساب إن أمكن، وأكملوا العدة ثلاثين يوماً إن لم تتمكنوا من التقدير، فتعمل الروايتين على مقامين مختلفين، على أن الإمام أحمد وغيره فسروا "فاقدروا له" على أن المراد: فاقدروا له بالحساب.
النقطة الرابعة: قول ابن بزيزة: نهت الشريعة عن الخوض في علم النجوم، لأنه حدس وتخمين ليس فيها قطع ولا ظن غالب.
وهذه قضية حالة انتهت أيضاً، وأصبح الفلك والحساب علماً دقيقاً، له قواعده وأصوله التي تنتج نتائج قطعية، فهي تخبر عن موعد الخسوف والكسوف قبل أن يحصل بعام، أو أكثر، ولا يخطئ هذا التحديد جزءاً من الثانية، وهو معتمد على سير الكواكب في أفلاكها، والله تعالى يقول:{هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب}[يونس: ٥].
النقطة الخامسة: قول ابن بطال وغيره: إننا لم نكلف في تعريف مواقيت صومنا ولا عبادتنا ما نحتاج فيه إلى معرفة حساب ولا كتابة، وقولهم: إن الناس لو كلفوا بالحساب ضاق عليهم، لأنه لا يعرفه إلا أفراد والشارع إنما يأمر الناس بما يعرفه جماهيرهم.
وهذه قضية مردودة عليهم، لأن الناس أيضاً لم يكلفوا جميعاً بالرؤية، بل لم يكلف جماهيرهم بالرؤية، ولو كلفوا بها لضاق عليهم، لأنه لا يتمكن منها إلا أفراد، واكتفى الشارع بواحد أو اثنين من الأمة، مع أن علماء الحساب مئات.
وإذا سلمنا أننا لم نكلف في عبادتنا مشقة لقوله تعالى:{وما جعل عليكم في الدين من حرج}[الحج: ٧٨] لكن إذا وجدنا بين أيدينا حساباً دقيقاً دون مشقة نتركه ونتكلف المشقة في ترائي الهلال؟ وهل إذا وجدنا بين أيدينا [بوصلة] تحدد جهة القبلة نتركها وننظر إلى الشرق والغرب والشمال والجنوب، ونجتهد في موقعنا من الكعبة لنتجه إليها؟ أيهما أيسر؟ بل أيهما أدق؟ . بل أيهما أكثر احتمالاً للخطأ؟ مائة من العدول يقولون: لم نر الهلال؟ أم قول أهل الحساب أنه لم يولد؟ .
هناك مسألة أساسية ينبغي أولاً أن نضعها في الاعتبار، هي أنه لو وافق الحساب الرؤية إثباتاً فلا إشكال، أعني إذا قال الحساب: القمر في السماء، وقال الراءون: رأينا القمر في السماء فلا إشكال ولزم الصوم سواء قلنا: اعتمدنا الحساب، أو قلنا اعتمدنا الرؤية، أو قلنا اعتمدنا الحساب والرؤية معاً، ولو وافق الحساب المترائين نفياً، بأن قالوا: لم نر الهلال، وقال الحساب: إنه لا يوجد الليلة في سمائنا فلا إشكال أيضاً، ولا يثبت الشهر.
لكن إذا اختلف الحساب والراءون إثباتاً أو نفياً، فمن نعتمد؟ .