أشبه ما تكون هذه الفترة بفترة سجن لنفس المؤمن، والسجين يستعد لسجنه بما يخفف عنه متاعب الحبس والقهر قدر ما يستطيع.
إن هذا المؤمن الذي سيتعرض للتفث والشعث عليه أن يستعد له بما يخفف من آثاره الضارة له ولجليسه وصاحبه، عليه أن يتأهب لذلك بالغسل قبل الإحرام، وقد سبق القول فيه.
أما هذه الأحاديث فهي ترمي إلى أن يتأهب للروائح الكريهة التي ستلحقه وأن يتأهب للحرمان من الطيب الذي سيفرض عليه بالتزود بالطيب قبل أن يمتنع منه.
وهكذا تطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل إحرامه بأطيب طيب يقدر عليه، وبأكبر قدر من الطيب يبقى ويستمر وتطول آثاره، حتى إن الناظر إلى رأسه يرى لمعانه في شعره صلى الله عليه وسلم بعد ثلاثة أيام من إحرامه، وللهدف نفسه يسارع صلى الله عليه وسلم إلى الطيب عقب رفع الحظر دون تراخ، فيبادر إليه عقب رمي جمرة العقبة والحلق قبل أن ينزل إلى مكة ويطوف بالبيت طواف الإفاضة.
يتطيب في أواخر لحظات الإباحة قبل المنع، ويتطيب في أول لحظات الإباحة بعد المنع. فهل رأيت ديناً أحرص على النظافة من الإسلام؟ وهل رأيت شاهداً على ذلك أقوى من هذا الشاهد؟ .
وإن رقياً آخر بالمشاعر يبدو لنا من هذا الشاهد، رقي بمشاعر الصحب من جانبي الصحبة، الزوجة تحرص على أن تطيب زوجها بيديها، والزوج ينعم بهذه الأيدي الرقيقة ويسعد بها، ألم يكن يستطيع أن يطيب نفسه؟ ألم تكن تستطيع أن تتركه يفعل هذا الأمر الهين بنفسه؟ لكن القدوة الحسنة، والمثل الأعلى للحياة الزوجية يشهد لبيت النبوة، وصدق الله العظيم إذ يقول:{إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً}[الأحزاب: ٣٣].
وإن رقياً ثالثاً بالمشاعر يبدو لنا من هذه الأحاديث. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيسافر للحج سفراً طويلاً ولن يصحب معه نساءه التسع، بل سيقرع بينهن ويخرج بمن خرج سهمها وصاحبة ليلة السفر ستكون أكثر حظاً من غيرها فكيف يجبر خاطر جميعهن؟ لقد كان يطوف عليهن جميعاً ليلة السفر، فتحصل كل واحدة منهن على نفس درجة الأخرى من القرب منه صلى الله عليه وسلم وصدق فيه قول ربه:{وإنك لعلى خلق عظيم}[القلم: ٤]. وقول ربه:{لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم}[التوبة: ١٢٨].
-[المباحث العربية]-
(لحرمه) قال النووي: ضبطوها بضم الحاء وكسرها، والضم أكثر، ولم يذكر الهروي وآخرون غيره -أي غير الضم-، وأنكر ثابت الضم على المحدثين، وقال الصواب الكسر والمراد بحرمه إحرامه بالحج. اهـ
واللام للتعليل، قال الحافظ ابن حجر: أي لأجل إحرامه، وللنسائي "حين أراد أن يحرم". اهـ وفي