أما الذين يجيزون كون الحق في الطرفين وأن كل مجتهد مصيب فيقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل له أجرا فلو كان لم يصب لم يؤجر وأجابوا عن تسميته مخطئا بأنه محمول على من أخطأ النص أو اجتهد فيما لا يسوغ فيه الاجتهاد كالمجمع عليه ونحوه فإن مثل هذا إن اتفق له الخطأ نسخ حكمه وفتواه ولو اجتهد بالإجماع فهذا الذي يصح إطلاق الخطأ عليه وأما من اجتهد في قضية ليس فيها نص ولا إجماع فلا يطلق عليه الخطأ.
والتحقيق في هذه القضية التفصيل وليس الإطلاق ففي حالة تنازع زيد وعمرو على ملكية شيء هو ملك لزيد في واقع الأمر فإذا قضى به لزيد فهو مصيب وثبت له أجر لاجتهاده وأجر إعطاء الحق لمستحقه أما إن قضى به لعمرو بعد الاجتهاد وبعد بذل الجهد ربما لأن عمرا ألحن بحجته من زيد فهذا الحاكم مخطئ معذور ولا يمكن أن يقال عنه: إنه مصيب للحق فالحق لا يتعدد بالنسبة لواقع الأمر ومن وافق في حكمه الواقع فهو مصيب وإلا فهو مخطئ لكن إذا نظرنا لحكم الشرع وقوانينه والحكم بالبينة للمدعي فالحاكم مصيب لقواعد الشرع وقوانينه وإن حكم لعمرو أي وإن لم يوافق الواقع فهو مصيب قواعد الشرع مخطئ واقع الأمر فيؤجر على اجتهاده ولا يأثم بخطئه وإعطاء الحق لغير مستحقه مادام قد بذل وسعه في الاجتهاد وكان من أهله ووزر المحكوم له قاصر عليه وقد سبق في ذلك قريبا حديث "إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضهم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليحملها أو يذرها".
فهذه حالة لا يصح أن نقول فيها إن الحق مع الطرفين وإن صح أن نقول: كل مجتهد مصيب فموافق الواقع مصيب غير مخطئ وغير الموافق للواقع مصيب في تطبيق قواعد الشرع مخطئ الواقع.
أما حالة اختلاف المجتهدين في الفروع نتيجة لاختلافهم في استنباط الحكم من الدليل فيمكن أن يطلق على كل منهم أنه مصيب لأن صاحب النص أراد لهم أن يختلفوا وأن يقبل منهم ما يصلون إليه ولو أن المشرع أراد جعل الصواب في ناحية والخطأ في أخرى لحرر الحكم ونص عليه نصا لا يقبل الخلاف كما في أصول التوحيد فالمصيب فيها واحد بإجماع من يعتد به قال النووي: ولم يخالف في ذلك إلا عبد الله بن الحسن العبتري وداود الظاهري فصوبا المجتهدين في ذلك أيضا. اهـ.
وإذا كان المختلفون في الفروع مصيبين في أحكامهم بعد استفراغ جهدهم في الاجتهاد رجونا لهم جميعا أجرين واعتبرناهم غير داخلين في الحديث وجعلناه خاصا بالقضاة.