الثانية: أن الساعة تقوم على شرار الخلق، وفيهما وردت أحاديث كثيرة: تؤكد وتوضح المعنيين: ففي مسلم: قال النبي صلى الله عليه وسلم "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن"، وفيه "يبعث الله ريحا طيبة تتوفى كل من في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه" وفيه أيضا "فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحا طيبة، فتأخذهم من تحت آباطهم، فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم، ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر [يفحش الرجال بالنساء بحضرة الناس كما يفعل الحمير] فعليهم تقوم الساعة" وفيه "لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله" وفي رواية: "لا تقوم الساعة على أحد يقول: الله الله" وفي البخاري "لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم" وفيه "يذهب الصالحون الأول فالأول، ويبقى حفالة كحفالة الشعير أو التمر (ما يتساقط من قشور الشعير والتمر) لا يبالهم الله باله" وفي بعض الروايات "تذهبون الخير فالخير، حتى لا يبقى منكم إلا حثالة كحثالة التمر، ينزو بعضهم على بعض نزو المعز، على أولئك تقوم الساعة" وفي البخاري "من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء" ومن مجموع هذه الأحاديث نفهم أن الصالحين سيقبضون شيئا فشيئا، وأنهم سيتناقصون تدريجيا، حتى يكونوا في آخر الزمان قلة تموت عند هذه الريح اللينة الطيبة.
وظاهر هذه الأحاديث يتعارض مع ما جاء في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم "لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى تقوم الساعة". وفي رفع هذا التناقض قال النووي: هذه الأحاديث على ظاهرها، وأما الحديث الآخر "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق إلى يوم القيامة" فليس مخالفا لهذه الأحاديث، لأن معنى هذا أنهم لا يزالون على الحق حتى تقبضهم هذه الريح اللينة قرب القيامة وعند تظاهر أشراطها، فأطلق في هذا الحديث بقاءهم إلى قيام الساعة، على أشراطها ودنوها المتناهي في القرب. اهـ.
ورفع ابن بطال هذا التناقض بتقييد هذه الأحاديث السابقة وتخصيص عمومها، فقال إنها وإن كان لفظها لفظ العموم المراد بها الخصوص، ومعناها أن الساعة تقوم أيضا في الأكثر والأغلب على شرار الناس، بدليل قوله:"لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى تقوم الساعة" فدل هذا الخبر على أن الساعة تقوم أيضا على قوم فضلاء. اهـ.
والتحقيق: أن توجيه الإمام النووي أصح وأولى بالقبول، لأن ألفاظ العموم وصيغ القصر في تلك الأحاديث تبعد تقييدها بما قيد به ابن بطال. والله أعلم.