مر رجل من سادات قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وحوله أصحابه وفيهم سعد بن أبي وقاص، فقال لهم ما تقولون في هذا الرجل؟ قالوا: عظيم، حري إن شفع أن يشفع، وإن خطب أن ينكح، وإن تكلم أن يسمع. فسكت صلى الله عليه وسلم حتى مر جعيل بن سراقة - وهو من فقراء المهاجرين - فقال لهم:"ما تقولون في هذا الرجل؟ " قالوا: حري إن شفع ألا يشفع، وإن خطب بنت أحدنا ألا ينكح، وإن تكلم ألا يستمع. قال صلى الله عليه وسلم:"هذا الفقير خير من ملء الأرض مثل هذا الغني".
فلما كان مجلس آخر بعد زمن، وجلس سعد بن أبي وقاص في مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم جاء جماعة من فقراء المهاجرين، وفيهم جعيل بن سراقة، يتعرضون لعطاء الرسول صلى الله عليه وسلم فأعطاهم رسول الله ولم يعط جعيلا، فعظم الأمر في نفس سعد، كيف لا يعطي جعيلا وهو عند سعد أحبهم إليه منذ سمع من الرسول صلى الله عليه وسلم عنه ما سمع؟ قام سعد، وأسر في أذن الرسول صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، قلت في جعيل كذا وكذا، وأنت تصنع به الآن ما تصنع؟ أعط جعيلا كما أعطيت زملاءه، فوالله إني لأراه مؤمنا، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يرشد سعدا إلى التوقف عن الثناء بالأمر الباطن دون الثناء بالأمر الظاهر، وإلى أنه ينبغي أن تكون التزكية بالإسلام لا بالإيمان، فقال له: أو مسلما. فسكت سعد قليلا، ولم يعط الرسول صلى الله عليه وسلم جعيلا، فلم يستطع الاستمرار على السكوت فقال مرة ثانية: يا رسول الله أعط جعيلا، فوالله إني لأراه مؤمنا، قال صلى الله عليه وسلم:"أو مسلما". فسكت قليلا، ولم يعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جعيلا، ثم لم يستطع الصبر، فقال: يا رسول الله، أعط جعيلا، فوالله إني لأراه مؤمنا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أو مسلما" ثم قال: أقتالا ومدافعة يا سعد، إن الإعطاء ليس علامة الرضى والمحبة، وإن هؤلاء ضعاف الإيمان، فأنا أتألفهم، أما جعيل فهو قوي الإيمان، فأنا أتركه لإيمانه وأعطي من أخشى عليه الكفر، أحميه بالمال من الوقوع في نار جهنم، وإني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه.
فرضي سعد، وآمن بحكمة الرسول صلى الله عليه وسلم ورضي جعيل بالحرمان رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين.
-[المباحث العربية]-
(عن عامر بن سعد عن أبيه) سعد بن أبي وقاص -كما هو مصرح به في الرواية الثانية- أحد العشرة المبشرين بالجنة، أسلم بعد أبي بكر، وله في الإسلام فضل كبير، ومات بالعقيق سنة خمس وخمسين، وعاش نحوا من ثمانين سنة.
(قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسما)"قسما" مفعول به، أي قسم مالا مقسوما وكان ما أفاء الله على رسوله خمس خمس الغنيمة يحبسه رسول الله صلى الله عليه وسلم فينفق منه على أهله، وفي السلاح، وعدة الحروب، وما فضل يقسمه في فقراء المهاجرين، ولعل القسم في الحديث من هذا الأخير.