السلام تمشي، ولا والله ما تخفى مشيتها من مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآها رحب. قال: مرحباً يا بنتي، ثم أجلسها عن يمينه -أو عن شماله- ثم سارها، فبكت بكاء شديداً، فلما رأى حزنها سارها الثانية، فإذا هي تضحك. فقلت لها: أنا من بين نسائه -خصك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسر من بيننا، ثم أنت تبكين، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتها عما سارك؟ قالت: ما كنت لأفشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم سره، فلما توفي قلت لها: عزمت عليك -بما لي عليك من الحق- لما أخبرتني. قالت: أما الآن فنعم. فأخبرتني، قالت: أما حين سارني في الأمر الأول، فإنه أخبرني أن جبريل كان يعارضه بالقرآن كل سنة مرة، وإنه قد عارضه به العام مرتين، ولا أرى الأجل إلا قد اقترب، فاتقي الله واصبري، فإني نعم السلف أنا لك، قالت: فبكيت بكائي الذي رأيت، فلما رأى جزعي سارني الثانية، قال: يا فاطمة، ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين؟ أو سيدة نساء هذه الأمة؟ ".
وكذلك يدل على الجواز حديث ابن مسعود أخرجه البخاري، قال: "قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً قسمة، فقال رجل من الأنصار: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله، قلت: أما والله لآتين النبي صلى الله عليه وسلم، فأتيته، وهو في ملأ، فساررته، فغضب حتى احمر وجهه، ثم قال: رحمة الله على موسى، أوذي بأكثر من هذا فصبر".
قال ابن التين: فإن في ذلك دلالة على أن المنع يرتفع إذا بقي جماعة لا يتأذون بالسرار، ويستثنى من أصل الحكم ما إذا أذن من يبقى -سواء كان واحداً أم أكثر- للاثنين في التناجي دونه أو دونهم، فإن المنع يرتفع، لكونه حق من يبقى.
وأما إذا انتجى اثنان ابتداء، وثم ثالث، كان بحيث لا يسمع كلامهما، لو تكلما جهرا، فأتى ليستمع عليهما، فلا يجوز، كما لو لم يكن حاضراً أصلاً معهما، وقد أخرج البخاري في كتاب الأدب المفرد، عن سعيد المقبري، قال: "مررت على ابن عمر، ومعه رجل يتحدث، فقمت إليهما، فلطم صدري، وقال: إذا وجدت اثنين يتحدثان، فلا تقم معهما، حتى تستأذنها" زاد أحمد في رواية "وقال: أما سمعت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا تناجى اثنان فلا يدخل معهما غيرهما، حتى يستأذنهما"؟ .
قال ابن عبد البر: لا يجوز لأحد أن يدخل على المتناجيين في حال تناجيهما، قال الحافظ ابن حجر: ولا ينبغي لداخل القعود عندهما، ولو تباعد عنهما، إلا بإذنهما، فقد افتتحا حديثهما سراً، وليس عندهم أحد، فدل على أن مرادهما ألا يطلع أحد على كلامهما، ويتأكد ذلك إذا كان صوت أحدهما جهورياً، لا يتأتى له إخفاء كلامه ممن حضره، وقد يكون لبعض الناس قوة فهم، بحيث إذا سمع بعض الكلام استدل به على باقيه، فالمحافظة على ترك ما يؤذي المؤمن مطلوبة، وإن تفاوتت المراتب.