والمراد بالأول هنا عند الجمهور من يكون مبدأ الماء من ناحيته، وقال بعض المتأخرين من الشافعية: المراد به من لم يتقدمه أحد في الغراس، بطريق الإحياء، والذي يليه من أحيا بعده، وهلم جرا. اهـ. ويمكن قبول هذا الترتيب إذا كانوا متساوين في القرب من مصدر الماء، أو كان مصدره في وسط أراضيهم، وقضيتنا في ماء يخترق أرضا، ليصل إلى أخرى.
قال ابن التين: الجمهور على أن الحكم أن يمسك الأول الماء حتى يصل في الأرض إلى الكعبين، الحد الواجب في الوضوء، وخصه ابن كنانة بالنخل والشجر، قال: وأما الزروع فإلى الشراك - أي السير الذي فوق القدم من النعل - وقال الطبري: الأراضي مختلف، فيمسك لكل أرض ما يكفيها، لأن الذي في قصة الزبير واقعة عين.
واختلف أصحاب مالك: هل يرسل الأول جميع الماء بعد أن يبلغ الكعبين - فتصفى الأرض؟ أو يرسل ما زاد على الكعبين؟ والأول أظهر، إذا لم يبق له به حاجة.
٢ - وفي الحديث إشارة الإمام بالصلح بين المتخاصمين، قبل أن يحكم، فما أشار به صلى الله عليه وسلم أولا كان على سبيل الصلح، ولا يلزم الخصم به إلا إذا رضي.
٣ - وأن الحاكم يستوفي لصاحب الحق حقه، ولو لم يسأله صاحب الحق.
٤ - وحكى الخطابي أن فيه دليلا على جواز فسخ الحاكم حكمه، لأنه صلى الله عليه وسلم حكم أولا بالإحسان إلى الجار، فلما اعترض الخصم، رجع عن حكمه الأول إلى الحقوق، ليكون ذلك أبلغ في زجر الخصم، وتعقب بأن الحكم الأول لم يثبت، حتى يرجع عنه، فقد كان إشارة إلى المصالحة.
٥ - قيل: إن الحكم والحق هو الحكم الأول، أما الثاني فكان عقوبة على ما بدر منه، وكان ذلك لما كانت العقوبة بالأموال جائزة، حكاه ابن الصباغ من الشافعية، ووافق عليه، وهو بعيد، وسياق طرق الحديث يأباه، لا سيما قوله "واستوفى للزبير حقه" في صريح الحكم، فمجموع الطرق دال على أنه أمر الزبير أولا أن يترك بعض حقه، وثانيا أن يستوفي جميع حقه.
٦ - وفيه أن من سبق إلى شيء من مياه الأودية والسيول التي لا تملك، فهو أحق به، لكن ليس له إذا استغنى أن يحبسه عن الذي يليه.
٧ - وفيه توبيخ من جفا على الحاكم ومعاقبته.
٨ - ويمكن أن يستدل به على أن للإمام أن يعفو عن التعزير المتعلق به، لكن محل ذلك ما لم يؤد إلى هتك حرمة الشرع، وإنما لم يعاقب النبي صلى الله عليه وسلم صاحب القصة، لما كان عليه من تأليف الناس، قال القرطبي: فلو صدر مثل هذا من أحد في حق النبي صلى الله عليه وسلم، أو في حق شريعته قتل قتلة زنديق، ونقل النووي نحوه عن العلماء.
٩ - وفيه صحة حكم الحاكم وهو غضبان، إذا أمن الخطأ والغلط، والنبي صلى الله عليه وسلم مأمون، لعصمته من ذلك حال السخط.
١٠ - وفيه ما تحمله رسول الله صلى الله عليه وسلم من إيذاء، والحث على الصبر على الأذى.