١٨ - واستدل بالحديث على أن اعتناء الشرع بالمنهيات فوق اعتنائه بالمأمورات، لأنه أطلق الاجتناب في المنهيات، ولو مع المشقة في الترك، وقيد في المأمورات بقدر الطاقة.
فإن قيل: إن الاستطاعة معتبرة في النهي أيضا، إذ يقول الله تعالى {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}[البقرة: ٢٨٦] فجوابه أن الاستطاعة تطلق باعتبارين. قال الحافظ ابن حجر: كذا قيل، والذي يظهر أن التقييد في الأمر بالاستطاعة لا يدل على اعتناء الشرع بالنهي، بل هو من جهة أن النهي كف، وكل واحد قادر على الكف، لولا داعية الشهوة مثلا، فلا يتصور عدم الاستطاعة عن الكف، بل كل مكلف قادر على الترك، بخلاف الفعل، فإن العجز عن تعاطيه محسوس، فمن هنا قيد في الأمر بحسب الاستطاعة، دون النهي، قال: وعبر الطوفي في هذا الموضع بأن ترك المنهي عنه عبارة عن استصحاب حال عدمه، أو الاستمرار على عدمه، وفعل المأمور به عبارة عن إخراجه من العدم إلى الوجود. وقد نوزع بأن القدرة على استصحاب عدم النهي عنه قد تتخلف، وقال الماوردي: أن الكف عن المعاصي ترك والترك سهل، وعمل الطاعة فعل، وهو يشق.
فالحكمة في تقييد الحديث بالاستطاعة في جانب الأمر، دون النهي، أن العجز يكثر تصوره في الأمر، بخلاف النهي، فإن تصور العجز فيه محصور في الاضطرار.
١٩ - واستدل به على أن المكروه يجب اجتنابه، لعموم الأمر باجتناب المنهي عنه، فشمل الواجب والمندوب، وأجيب بأن قوله "فاجتنبوه" يعمل به في الإيجاب والندب بالاعتبارين ويجيء مثل هذا الجواب في الجانب الآخر، وهو الأمر.
٢٠ - واستدل به على أن المباح ليس مأمورا به، وأجيب بأن من قال: المباح مأمور به لم يرد الأمر بمعنى الطلب، وإنما أراد المعنى العام، هو الإذن.
٢١ - واستدل بقوله "فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم" النهي عن إكثار السؤال، والسؤال أنواع، ولكل نوع منه حكمة.
أ- فالسؤال عما لم يحدث تكلفا أو تعنتا، فيما لا حاجة إليه منهي عنه، فقد يؤدي إلى المشقة بالمسلمين، ويكون سببا لتحريم شيء عليهم، لم يكن ليحرم، لولا السؤال، كما أشير إليه في الرواية الرابعة والخامسة، وهذا النوع قد يكون مأمونا اليوم، بعد أن ثبت التحليل والتحريم، واستقرت الشريعة، وأكمل الله الدين، لكنه قد يتصور في المنقبين المشددين المتنطعين، الذين يسألون أمثالهم، فيجيبونهم بما يشق عليهم، وقد أخرج البزار "ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن ينسى شيئا، ثم تلا هذه الآية {وما كان ربك نسيا}[مريم: ٦٤] وأخرج الدارقطني "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحدد حدودا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء، رحمة بكم، غير نسيان، فلا تبحثوا عنها" ومن أمثلة ما وقع من الصحابة رضي الله عنهم من هذا النوع قبل نزول الآية، سؤالهم عن وجوب طاعة الأمراء، إذا أمروا بغير طاعة، والسؤال عن أحوال يوم القيامة، وما قبلها من الملاحم والفتن، وسؤالهم عن الكلالة والخمر والميسر، والقتال في الشهر الحرام، واليتامى، والمحيض، والنساء، والصيد، فكثير من هذه الأسئلة كانت سببا للتكليف بما يشق.