وقال القرطبي: ظاهر قول عيسى للرجل: "سرقت" أنه خبر جازم عما فعل الرجل من السرقة، لكونه رآه أخذ مالا من حرز في خفية، وقول الرجل: كلا. نفي لذلك، وأكده باليمين، وقول عيسى: آمنت بالله، وكذبت عيني. أي صدقت من حلف بالله، وكذبت ما ظهر لي من كون الأخذ المذكور سرقة، فإنه يحتمل أن يكون الرجل قد أخذ شيئا له فيه حق، أو شيئا أذن له صاحبه في أخذه، أو أخذه ليقلبه، وينظر فيه، ولم يقصد الغصب والاستيلاء، قال: ويحتمل أن يكون عيسى كان غير جازم بذلك، وإنما أراد استفهامه، بقوله: سرقت؟ وتكون أداة الاستفهام محذوفة، وهو سائغ كثيرا. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: واحتمال الاستفهام بعيد، مع جزمه صلى الله عليه وسلم بأن عيسى رأى رجلا يسرق، قال: واحتمال كونه يحل له الأخذ بعيد أيضا، بهذا الجزم بعينه.
قال ابن القيم: والحق أن الله كان في قلب عيسى أجل من أن يحلف أحد كاذبا، فدار الأمر بين تهمة الحالف، وتهمة بصره، فرد التهمة إلى بصره، كما ظن آدم صدق إبليس لما حلف له أنه له ناصح، قال الحافظ ابن حجر: وهذا متكلف أيضا. اهـ.
واستبعاد الحافظ ابن حجر للاستفهام مستبعد، لأن الاستفهام المجازي في استعمال العربية أكثر من الحقيقي، فقد يكون للتقرير، وقد يكون للتعجب، ولا يتعارض ذلك مع جزمه صلى الله عليه وسلم بأنه سرق، ولا مع إنكار الرجل، فكثيرا ما ينكر المتهم الواقع ويحلف، ولا مع تصديق عيسى له ظاهرا، وتسليمه له، فالقاضي لا يحكم بعلمه، ولم يظهر لي ما رجح عند الحافظ ابن حجر من الاحتمالات، وقد ردها جميعا، وعندي أن ما قاله ابن التين، وما قاله القرطبي محتمل، والله أعلم.
-[فقه الحديث]-
-[يؤخذ من أحاديث الباب]-
١ - تواضع الرسول صلى الله عليه وسلم، وإعلان ارتباطه بإخوانه عليهم السلام.
٢ - فضيلة عيسى ابن مريم وأمه، وظاهر الأحاديث اختصاص هذه الميزة بهما، واختار القاضي عياض أن جميع الأنبياء يتشاركون فيها.
٣ - تسليط الله تعالى إبليس على ابن آدم من اللحظة الأولى في حياته.
٤ - أن صراخ الطفل عند ولادته من نخسة الشيطان.
٥ - أن السرقة محرمة في الديانات الأخرى.
٦ - أن بعض النصارى كانوا موحدين، لا يقولون بالتثليث.
٧ - استدل بموقف عيسى من السارق على درء الحدود بالشبهات.
٨ - واستدل به على منع القضاء بالعلم، قال الحافظ ابن حجر: والراجح عند المالكية والحنابلة منعه مطلقا، وعند الشافعية جوازه إلا في الحدود، وهذه الصورة من ذلك.