العالم منزوع عن آحاد المؤمنين، قال تعالى: {ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا} [الحجر: ٤٧] فكيف بمن اصطفاه الله تعالى؟ بل كان أسفا على ما فاته من الأجر الذي يترتب عليه رفع الدرجة بسبب ما وقع من أمته من كثرة المخالفة المقتضية لتنقيص أجورهم، المستلزم لتنقيص أجره، لأن لكل نبي مثل أجر كل من اتبعه، ولهذا كان من اتبعه من أمته في العدد دون من اتبع نبينا صلى الله عليه وسلم مع طول مدتهم بالنسبة لهذه الأمة.
وأما قوله "غلام" فليس على سبيل النقص، بل على سبيل التنويه بقدرة الله وعظيم كرمه، إذ أعطى لمن كان في ذلك السن ما لم يعطه أحدا قبله ممن هو أسن منه، وقد وقع من موسى من العناية بهذه الأمة من أمر الصلاة ما لم يقع من غيره، ووقعت الإشارة لذلك في حديث أبي هريرة عند الطبري والبزار، قال عليه الصلاة والسلام: "وكان موسى أشدهم علي حين مررت به، وخيرهم لي حين رجعت إليه" وفي حديث أبي سعيد "فأقبلت راجعا فمررت بموسى- ونعم الصاحب كان لكم - فسألني: كم فرض عليك ربك"؟ . اهـ.
وقال ابن أبي جمرة: إن الله جعل الرحمة في قلوب الأنبياء أكثر مما جعل في قلوب غيرهم، فذلك بكى رحمة لأمته: وأما قوله: "غلام" فإشارة إلى صغر سنه بالنسبة إليه. اهـ.
وقال الخطابي: العرب تسمي الرجل المستجمع السن غلاما ما دامت فيه بقية من القوة. اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر: ويظهر لي أن موسى عليه السلام أشار إلى ما أنعم الله به على نبينا -عليهما الصلاة والسلام- من استمرار القوة في الكهولية وإلى أن دخل في سن الشيخوخة، ولم يدخل على بدنه هرم، ولا اعترى قوته نقص، حتى إن الناس في قدومه المدينة لما رأوه مردفا أبا بكر أطلقوا عليه اسم الشاب, وعلى أبي بكر اسم الشيخ، مع كونه في العمر أسن من أبي بكر. اهـ.
وقال بعضهم: وقع ما وقع من موسى لأنه ليس في الأنبياء من له أتباع أكثر من موسى، ولا من له كتاب أكبر ولا أجمع للأحكام من كتابه، فكان من هذه الجهة مضاهيا للنبي صلى الله عليه وسلم، فناسب أن يتمنى أن يكون له مثل ما أنعم الله به عليه، من غير أن يريد زواله عنه. اهـ.
وقد وردت مراجعة موسى لنبينا - عليهما الصلاة والسلام- بشأن الصلاة في أكثر الروايات.
قال القرطبي: والحكمة في تخصيص موسى بمراجعة النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الصلاة لعلها لكون أمة موسى كلفت من الصلاة بما لم تكلف به غيرها من الأمم، فثقلت عليهم، فأشفق موسى على أمة محمد صلى الله عليه وسلم من مثل ذلك. ويشير إلى ذلك قوله: "إني قد جربت الناس قبلك". اهـ.
وقال بعضهم: يحتمل أن يكون موسى لما غلب عليه الأسف في الابتداء على نقص حظ أمته بالنسبة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، حتى تمنى ما تمنى، يحتمل أن يكون قد استدرك ذلك ببذل النصيحة لهم، والشفقة عليهم، ليزيل ما عساه أن يتوهم عليه فيما وقع منه في الابتداء. اهـ.
وهذا كلام جيد، ويضمه إلى ما قاله القرطبي يتم المقصود، والله أعلم.