المحدودة، والله تعالى منزه عن الجسم والحد، فالمراد منه هنا المانع من رؤيته، وسمي ذلك المانع نورا، أو نارا لأنهما يمنعان من الإدراك في العادة لشعاعهما.
(لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) السبحات بضم السين والباء جمع سبحة، ومعنى "سبحات وجهه" نوره وجلاله وبهاؤه، والمراد بالوجه الذات، والمراد بما انتهى إليه بصره جميع المخلوقات، لأن بصره سبحانه وتعالى محيط بجميع الكائنات ولفظة "من" في قوله: "من خلقه" لبيان الجنس لا للتبعيض، والتعبير مقصود منه التقريب إلى الأذهان، كقوله تعالى:{مثل نوره كمشكاة فيها مصباح}[النور: ٣٥] الآية. إذ لا ينتهي بصره جل شأنه.
والمعنى: لو أزال المانع من رؤيته، وتجلى لخلقه، لأحرق جلال ذاته جميع مخلوقاته. والله أعلم.
فقه الحديث
أجمع أهل السنة على أن رؤية الله تعالى ممكنة، غير مستحيلة عقلا، وذهب المعتزلة والخوارج وبعض المرجئة إلى أن رؤية الله تعالى مستحيلة عقلا، وتمسكوا بظاهر قوله تعالى لموسى:(لن تراني) ردا على قوله: {رب أرني أنظر إليك}[الأعراف: ١٤٣] وقالوا: إن "لن" لتأكيد النفي الذي يدل عليه "لا" فيكون النفي على التأبيد. ويقول المجوزون: إن الله علق الرؤية على ممكن في قوله: {انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني} واستقرار الجبل ممكن، والمعلق على الممكن ممكن. ويقول النافون: إن استقرار الجبل حالة دكه مستحيل، والمعلق على المستحيل مستحيل، فالرؤية مستحيلة، وللمجوزين أن يقولوا: إن استحالة رؤية موسى لربه لا يلزمها استحالة رؤية غير موسى له جل شأنه. كما تمسك النافون بقوله تعالى:{لا تدركه الأبصار}[الأنعام: ١٠٣] وأجاب المجوزون بأن نفي الإدراك لا يستلزم نفي الرؤية لإمكان رؤية الشيء من غير إحاطة بحقيقته.
كما تمسك النافون بأن من شرط المرئي أن يكون في جهة، والله منزه عن الجهة، وأن يكون محدثا والله قديم، واشترطوا في الرؤية شروطا عقلية كالبنية المخصوصة، والمقابلة، واتصال الأشعة، وزوال الموانع كالبعد والحجب، وغير ذلك.
وأجاب المجوزون بعدم اشتراط شيء من ذلك عقلا، وكل ما يشترطونه وجود المرئي، وقالوا: إن للرؤية إدراكا، يخلقه الله تعالى للرائي، فيرى المرئي.
هذا وهناك شبه وردود كثيرة، واعتراضات وأجوبة مشهورة محلها كتب علم الكلام. ومن أرادها فليطلبها.
ولما صار أهل السنة إلى إمكان الرؤية عقلا اختلفوا في وقوعها في الدنيا لنبينا صلى الله عليه وسلم على الوجه المتقدم في الحديث السابق مع اتفاقهم على أنها لم تقع لغيره في الدنيا، أما رؤيته في الآخرة فسيأتي بحثها في الأحاديث التالية.