بذلك، فهناك من الأحاديث ما يفيد انتفاعه، فقد روى البخاري "لما مات أبو لهب أريه بعض أهله بشر خيبة"(أي سوء حال) قال له: ماذا لقيت؟ قال أبو لهب: لم ألق بعدكم راحة أو رخاء" غير أني سقيت في هذه "وأشار إلى النقرة التي تحت إبهامه، أي التي بين الإبهام والتي تليها من الأصابع "بعتاقتي ثويبة" فأفاد هذا الحديث أن الكافر قد ينفعه العمل الصالح في الآخرة، كما أفادنا هذه الإفادة حديث تخفيف العذاب عن أبي طالب (السابق الشرح) بفضل حياطته النبي صلى الله عليه وسلم، ونصرته إياه، كما يفيد هذه الإفادة ما رواه ابن مردويه والبيهقي من حديث ابن مسعود رفعه "ما أحسن محسن من مسلم ولا كافر إلا أثابه الله، قلنا: يا رسول الله ما إثابة الكافر؟ قال: المال والولد والصحة وأشباه ذلك. قلنا: وما إثابته في الآخرة؟ قال: عذابا دون العذاب" ثم قرأ: {أدخلوا آل فرعون أشد العذاب}[غافر: ٤٦].
وهناك من الأحاديث ما يمنع انتفاع الكافر في آخرته بما عمل من صالح في دنياه، كحديث ابن جدعان الذي معنا، وما رواه مسلم عن أنس "وأما الكافر فيعطى حسناته في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة". وقوله تعالى:{وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا}[الفرقان: ٢٣].
وأمام هذه القضية افترق العلماء ثلاث فرق (مع اتفاقهم جميعا على أن الكافر لا يثاب بنعيم في الآخرة).
الفريق الأول: يرى عدم انتفاع الكافر في الآخرة بما عمل من صالح مطلقا، ويمثله القاضي عياض، الذي يقول: انعقد الإجماع على أن الكفار لا تنفعهم أعمالهم، ولا يثابون عليها بنعيم ولا تخفيف عذاب، وإن كان بعضهم أشد عذابا من بعض. اهـ. ويرد حديث أبي لهب بأنه مرسل، وعلى تقدير أن يكون موصولا فالذي فيه رؤيا منام فلا حجة فيه، ولعل الذي رآها لم يكن إذ ذاك أسلم بعد، فلا يحتج به، أما بالنسبة لأبي طالب فلعلها خصوصية للرسول صلى الله عليه وسلم كما سبق.
والفريق الثاني: يرى أن الكافرين ينتفعون في الآخرة بما عملوا من صالح دنياهم، بتخفيف العذاب عن جرائمهم التي ارتكبوها غير الكفر، ويمثله البيهقي الذي يقول: قد يجوز أن يكون حديث ابن جدعان وما ورد من الآيات والأخبار في بطلان خيرات الكافر إذا مات على الكفر، ورد في أنه لا يكون لها موقع التخليص من النار، وإدخال الجنة، ولكن يخفف عنه من عذابه الذي يستوجبه على جنايات ارتكبها، سوى الكفر بما فعل من الخيرات. اهـ. وإلى هذا الرأي يميل الحافظ ابن حجر.
الفريق الثالث: يرى أن انتفاع الكافر في الآخرة بما عمل من صالح في دنياه ليس على إطلاقه السابق، وإنما هو خاص بمن ورد فيهم النص كأبي لهب وأبي طالب، ويمثله القرطبي الذي يقول عند شرح حديث أبي لهب هذا: التخفيف خاص بهذا (أي بغير عذاب الكفر) وبمن ورد النص فيه. اهـ. ويميل ابن المنير إلى هذا الرأي، ويوضحه؛ فيقول: هنا قضيتان: