ووصى صاحب بجاية به وأن يحمله خير محمل فلما أخذ في السفر شق على أصحابه وتغيروا فسكنهم وقال إن منيتي قربت وبغير هذه المكان قُدَّرت ولا بد منه وقد كبرت وضعفت، لا أقدر على الحركة فبعث اللَّه لي من يحملني إليه برفق وأنا لا أرى السلطان ولا يراني، فطابت نفوسهم وعدوه من كراماته فارتحلوا به على أحسن حال حتى وصلوا حوز تلمسان فبدت لهم رابطة العباد فقال لأصحابه ما أصلحه للرقاد فمرض فلما وصل وادي يسر اشتد مرضه ونزلوا به هناك فكان آخر كلامه اللَّه حق، فتوفي سنة أربع وتسعين وخمسمائة فحمل للعباد مدفن الأولياء الأوتاد وخرج أهل تلمسان لجنازته فكانت مشهدًا عظيمًا.
وفي ذلك اليوم تاب الشيخ أبو عمر الحباك وعوقب السلطان فمات بعده بسنة أو أقل، والدعاء عند قبره مستجاب مجرَّب، كما حققه سيدي محمد الهواري في كتابه التنبيه. ومن كلامه: إذا رأيت من يدّعي مع اللَّه تعالى حالًا وليس على ظاهره شاهد فاحذروه، وقال:"حسن الخلق معاشرة كل شخص بما يؤنسه ولا يوحشه، فمع العلماء يحسن الاستماع والافتقار، ومع أهل المعرفة بالسكون والانتظار، ومع أهل المقامات بالتوحيد والانكسار" وقال: "الحق تعالى مطلع على السرائر والضمائر في كل نفس وحال فأي قلب رآه مؤثرًا له حفظه من الطوارق والمحن وفضلات الفتن"، وسئل عن التسليم فقال:"إرسال النفس في ميدان الأحكام وترك الشفقة عليها من الطوارق والآلام"، وقال:"من رزق حلاوة المناجاة زال عنه النوم، ومن اشتغل بطلب الدنيا ابتلي فيها بالذل، ومن لم يجد من قلبه زاجرًا فهو خراب" وقال: "بفساد العامة تظهر ولاة الجور، وبفساد الخاصة تظهر دجاجلة الدين الفتانون"، وقال:"من عرف نفسه لم يغتر بثناء الناس عليه ومن خدم الصالحين ارتفع ومن حرمه اللَّه احترامهم ابتلاه اللَّه بالمقت من خلقه، وانكسار العاصي خير من صولة المطيع"، وقال:"علامة الإخلاص أن يغيب عنك الخلق في مشاهدة الحق"، وسئل عن الشيخ فقال: "الشيخ من شهدت له ذاتك بالتقديم وسرك