الدنيا، وهربًا عنها وأَفْقًا في الورع وشهرة بالكشف وإجابة الدعوة وظهور الكرامة، أبو العباس ابن عاشر، يسّر اللَّه لقاءه، على تعذره لصعوبة تأتيه وكثرة هيبته، قاعدًا بين القبور في الخلاء، رث الهيئة مطرق اللحظ كثير الصمت، مفرط الانقباض والعزلة، قد فرّ من أهل الدنيا وتطارحهم، فهو شديد الاشمئزاز من قاصده، مجد الوثبة من طارقه- اهـ -ملخصًا.
قال الشيخ ابن الخطيب القسنطيني في رحلته: وكان ابن عاشر -رحمه اللَّه- فريدًا في الورع ميسَّرًا عليه في ذلك أتمّ تيسير، محفوظًا من كل ما فيه شبهة، كثير النفور من الناس وخصوصًا أصحاب الولاية في الأعمال. وخرجت على يده تلاميذ نجباء أخيار، وطريقه أنه جعل إحياء علوم الدين بين عينيه، واتبع ما فيه بجدّ واجتهاد وصدق وانقياد، وكان الحجة في ذلك الطريق. وأول اجتماعي به نفر مني فحبسته بيدي وهززته، فتبسم ووقف معي وسألني ودعا لي، وطلبته فيما يطعمتي فاعتذر لي بالإقلال، ثم أمهل ودخل فأخرج لي حبات تين يابسة في يده اليمنى وغطّاها باليسرى ودفعها لي وضحك معي وعجب الحاضرون من انشراحه معي، إذ لا ينبسط إلى أحد، وحصل لي بذلك فخر لا يدري قدره إلا من حاول بعضه معه، وقصدني كثير من الخواص لسؤال عما وقع لي معه.
وقد حاول ملك المغرب لما ارتحل إليه عام سبع وخمسين وسبعمائة على (١) لقائه فلم يقدر عليه بوجه، وحجبه اللَّه تعالى حتى تبعه يوم الجمعة من الجامع الأعظم على قدمه والناس ينظرونه وهو لم يره فرجع عنه.
ولم يكن قوته إلا من نسخ (عمدة الأحكام) في الحديث. وكيف يبيعها؟ ولمن يبيعها؟ ولا يأخذ إلا قيمتها، ولم تزل حالته وبركته في زيادة إلى أن توفى سنة خمس وستين وسبعمائة.
وسأله بعض الأخيار بمحضري عن الفرق بين مكاشفة المسلم ومكاشفة النصراني لوقوع ذلك من بعضهم، فقال له: المسلم الذي هذه الدرجة
(١) كذا في الطبعة المصرية وهو خطأ والصواب حذف حرف الجر.