ذلك راجع لما تلقفه عن أستاذه ومربيه المهدي بن تومرت من أنواع المعارف وفنون الآداب، ولما تطور فيه من الأطوار، ولعبه من الأدوار، وما جربه بنفسه من تصاريف الدهر وتقلبات الزمان، فليس ينكر أنه استفاد من ذلك كله وأنه في مدرسة الحياة هذه، درس علوم الاجتماع والنفس بأجمعها. غير أنا إن اعتبرناه هو منشئ الحركة وموجدها وصاحب الفضل الكبير فيها؛ فلا ننسى ما بذله خلفاؤه الصالحون، كيوسف ابنه ويعقوب المنصور ومحمد الناصر وغيرهم من أعقابه وأحفاده، والأمراء الموحدين الآخرين الذين كانوا مقيمين بالأندلس وإفريقية؛ فإن هؤلاء أيضاً فضلاً كبيراً في قيام الحركة الأدبية واستمرار تقدمها إلى الأمام. إنما نحن في سائر تلك البلاد لا يهمنا إلا المغرب، إذ هو موضوع كتابنا هذا وقد وقفناك على مبدأ الأمر فيه فلنوقفك على منتهاه.
كان عبد المؤمن رجلاً ثقفاً حاذقاً متحققاً بكثير من فنون العلم والأدب، قد تلقف عن المهدي بن تومرت ما أتي به من المشرق، وزادته الأيام حنكة وتدريباً على الأمور، فجعلت منه ذلك العبقرية الفذ، الذي يندثر أن يجود الزمان بمثله إلا في الفينة النادرة. ولقد استخدم مواهبه كلها في تثبيت مركز الدولة وتقرير مستقبلها الحفيل بالعظائم، حتى شاد لها ذلك العز المكين والفخر المبين، الذي بقي ذكره مخلدة في بطون التواريخ. وكان هماماً بكل معاني الكلمة لا يستعظم مطلباً ولا يستبعد غاية، ملوكياً، كما يقول المراكشي؛ كأنه ورث الملك عن آبائه وأجداده، فلم يقصر نظره على أمر خاص من أمور سياسة الدولة، ولم يوجه عنايته إلى ناحية واحدة من النواحي العديدة التي يتطلبها إصلاح المجتمع، بل كان يقبل بكلتيه على كل أمر جليل أو حقير، صغير أو كبير فيرتق الفتوق، ويرأب الصدوع، ويتقن عملية المزج والتلقيح بين العناصر المختلفة، والأجناس المتباينة، ولقد خص الأندلس قبل المغرب برعايته وحمايته، وعرف ما لأهلها من فضل ويد في تقدم المعارف العامة، واستخلص منهم صفوة الصفوة، واختص بعلمائهم، وقربهم من مجلسه، وجعلهم بطانته وأهل مشورته، فأفاد ذلك المغرب والمغاربة كثيراً.
ولا نريد أن نطيل بالكلام على ما عمله أعقاب عبد المؤمن في هذا الصدد، فما جئنا بنموذج مما عمله هو، إلا ليكون نموذجاً عاماً عن جميع أعمال أعقابه، خصوصاً وقد تتبعوا خطاه، وترسموا آثاره في ذلك، ومن لم يزد منهم على ما عمله هو في البر