كانت أيامه في انصراف، فلم ينشب أن توفي رحمه الله، وقد كان بني فأحسن البناء، إنما لم يتم الله مراده، وقام الولد الشاب وتتبع خطوات أبيه، فتمسك بفتوحاته في تلك البلاد، ونظر في أحوالها بعين الحكمة والسداد، لكن ما لبث الأمر بعده إن رجع إلى مبداه، وعاد لتونس استقلالها وللجزائر سلطنتها وبقي المغرب قائماً بنفسه في أخريات أيام هذه الدولة.
هذه كانت سياسة المرينيين في إفريقية، وهي كما رأيتها لا تدل على مهارة وحسن تدبير، بل غاية ما فيها، وتسبب عنها فعلاً تفريق كلمة المسلمين الموحدة، وبذر العداوة بين قلوبهم النقية، زيادة على إضعاف قوتهم المادية والمعنوية، مما يسهل طريق استيلاء العدو عليهم وتمكنه منهم.
ونحن إذا وقفنا محقين بجانب يوسف بن تاشفين، ودافعنا عن سياسته الناجحة في ضم الأندلس إلى المغرب، ورمينا في وجوه خصومه بكل ما تقولوه عليه، لا يمكننا هنا أن نقف مبطلين بجانب المرينيين وندافع عنهم ونعتذر لهم، لأنه شتان بين عمل يوسف، وعمل المرينيين، ولئن جني المغرب، وجنت الأندلس من حركة يوسف ما جنياه من الثمار الصالحة، والنتائج الحسنة، فلم يحن المغرب ولا إفريقية من سياسة المرينيين فيها إلا الخسائر المتوالية في المال والرجال. وبالتالي تضعضع المركز الدولي الذي كان لها في العالم وهذا أمر ليس من صالح كلا الطرفين في شيء، بل ليس من صالح الشرق ولا الإسلام ولا العرب. على أن العقل لا يجوز بسرعة إمكان تغلب الدولة المرينية على هؤلاء، وهم مثلها دولة ناشئة شديدة الشكيمة، قوية المراس، فلم يبق إلا انهم أخطأوا سبيل المصلحة وهو الاتحاد معهم على رد عادية العدو بالبلاد الأندلسية، حتى، لا يزيد طغيانه على أهلها، ويعلم أن من وراء اتحاد ملوك النصرانية اتحاد ملوك الإسلام، فيقلل من غلوائه، ولا يشتط في عدوانه ولو كتب ذلك لكان المسلمون متوطنين بأندلسهم إلى الآن، لا ينغص عيشهم فيها شيء.
ثم بعد أن تبينا هذه الناحية من سياسة بني مرين، نصرف النظر إلى ناحية أخرى من سياستهم، وهي موقفهم بإزاء الأندلس، فمنها يظهر لك مزيد اعتنائهم بإفريقية، بل ربما يلتبس عليك الأمر في التوفيق بين سياستهم الأولى في إفريقية، سياسة الفتح والغزو، وسيرتهم الثانية في الأندلس المباينة لتلك تمام المباينة، وذلك أنهم في