الأندلس كانوا قد اتخذوا ربطاً وجنوداً المناوشة الأسبان في القتال، ودفاعهم عن بلاد المسلمين. وكان أول جيش ذهب منهم إليها، في أيام يعقوب المتقدم الذكر، وهو نفسه جاز إلى الأندلس أربع مرات. لا تسأل عن أعماله الحربية فيها، ومواقفه المشرفة؛ فكانوا يستولون فيها على الحصون والمدن العديدة، لكنهم لم يكونوا يتمسكون بها أبداً، إنما كانوا يزفونها هدية إلى أمراء بني نصر، أصحاب الأندلس.
وإنك لتعجب من هذه السماحة، وهذا الإيثار، مما لا علة له إلا حسن نياتهم في الجهاد فقط، كما كانوا يصرحون هم أنفسهم بذلك. ولا تقل أن ذلك نتيجة العجز، وعدم القدرة على اقتحام الأندلس وضمها إلى المغرب، فإن من يجرؤ على حرب دولتين فتيتين من الدول المغربية الصميمة بإفريقية، لا يتهيب حرب بني الأحمر؛ خصوصاً وقد كانوا في حرب مع المخالفين عليهم من بني جلدتهم، أو مع الإسبانيين، ولا تقل أيضاً أن البحر كان هو الحاجز بينهما والمانع من تنفيذ هذه الفكرة، ولو طافت برؤوس السلاطين من بني مرين، لأنا نعلم أن أسطول المغرب في ذلك الحين كان من الأساطيل التي تضرب بها الأمثال، وقد ذكرنا آن جملة قطعه التي كانت مع أبي الحسن في وقعة إفريقية خمسمائة قطعة؛ فلا يجوز أن يقال إن البحر هو الذي كان حائلاً عن إقدامهم على شن الغارة على الجزيرة الأندلسية وانتزاعها من أيدي مالكيها، والمتصرفين فيها. وإذا لم يكن هذا ولا ذاك هو السبب الحقيقي في انصرافهم عنها إلى إفريقية، فليكن هذا السبب الذي نذكره، وهو الذي تؤيده وقائع الأحوال وشواهد العيان، فالمرينيون خلف الموحدين كانوا يعرفون ما نزل بسلفهم من الضعف والانحلال بسبب ذلك القطر الأندلسي، ومحافظتهم عليه، ولئن قيل إنه كان سبب عزهم ومجدهم فقد يقال أيضاً أنه كان سبب تعسهم ونحسهم، فمن المحقق أنه لولا واقعة العقاب لم يتمكن للمرينيين أن يستولوا على المغرب، ويقلصوا ظل نفوذ الموحدين عنه. فهذه العبرة التاريخية هي التي كانت تثنيهم عن المغامرة في أخذ الأندلس وانتزاعها من أيدي بني نصر، ولو فعلوا لنجحوا في ذلك من أول وهلة؛ لكنهم كانوا ينظرون إلى العاقبة فيتخوفون منها. ولنفرض أنهم أخذوها، أليس ما يلزمها من التحصين الدائم، والدفاع المستمر منهكاً لقواهم، كاسراً لشوكتهم يوماً ما، كما سبق ففعل بالمرابطين وبني مؤمن؟ نعم. فنظرهم هذا سديد، وأسدُّ منه نظرهم إلى توحيد إفريقية، لو كان ممكناً إذ ذاك. ولذلك فقد انصرفوا عن الأندلس انصراف المختار