يوجه إليه كتب العلم التي بقيت ببلاده للمسلمين؛ فوجه إليه منها ثلاثة عشر حملاً فيها كثير من المصاحف وكتب التفسير والحديث والفقه واللغة، فأرسلها المنصور إلى فاس وحبسها على طلبة العلم. ولقد جاوزت عنايتهم بهذا الشأن بلاد المغرب، إلى الخارج. فهذا السلطان أبو الحسن يوقف على المساجد الثلاثة المقدسة ثلاثة مصاحف كتبها بخطه، وجمع لها القراء والخطاطين والنقاشين، وأخرجها في حلة فريدة من الفن المغربي البديع، وأرسلها وقفاً كما قلنا إلى مسجد مكة، ومسجد المدينة، وبيت المقدس، وأوقف عليها من الضياع والرباع ما يقوم بكفاية القائمين عليها والقارئين فيها. وكانت المساجد والمشاهد والمنشآت التي خدموا بها الدين كثيرة أيضاً، ناهيك بأن أبا عنان منهم هو أول من نصب صواري الصوامع، ونشر فيها الأعلام (١) في أوقات الصلاة نهاراً والشرج ليلاً، يستدل بذلك من بعد ومن لم يسمع النداء وجعل علم يوم الجمعة أزرق للاستذكار. وفي ذلك اعتناء بأمور الأوقات، وما يتعلق بها من وجوب الصلوات وما يترتب عليها من وجوه الحقوق في العادات والعبادات وفيه قيل:
نور به علم الإيمان مرتفع ... للمهتدين به للحق إرشاد
يأتون من كل صوب نحوه فلهم ... لديه للرشد إصدار وإيراد
وفي الحقيقة إن كل واحد منهم كان مثالاً للملك العربي المسلم العامل لعزه قومه ودينه، فلا يفتأ يجد ويجتهد في إشادة مجدهما وتخليد مآثرهما، وبقدر حرصهم على الوحدة المغربية الذي قدمنا الكلام عنه وقلنا إنهم أخطأوا الطريق إليه، كان حرصهم على الوحدة الإسلامية عموماً، فأنت قد رأيت مقدار تفانيهم في الدفاع عن معقل المدنية الإسلامية، والحضارة العربية في بلاد الأندلس، ومبلغ نصحهم لملوكها، حتى إنهم كانوا معهم مثل الأجراء يعملون لهم، لكن بدون أجرة، بل هم كانوا يدفعون إليهم المبالغ الطائلة من الأموال والسلاح والعتاد. كذلك كانوا على اتصال دائم ملوك الإسلام في مصر والشرق؛ فكم كاتبوهم وهادوهم وعقدوا
(١) ولا نظير لذلك إلا في بعض بلاد الشام خاصاً بالظهر والعصر والمغرب التي يفيد فيها نشر العلم.