ومهر فيها، ثم لحق بمرَّاكش فنزل على ابن البناء ولازمه فتضلع عنه في علم المعقول والتعاليم والحكمة، ورجع إلى فاس فانثال عليه طلبة العلم، وانتشر علمه بكل مكان.
إنما الذي لا مرية فيه أن معظم النشاط العلمي في هذا العصر كان منصرفاً إلى الرياضيات من حساب وجبر وهندسة وفلك، والنابغون فيها كانوا أكثر من غيرهم، وكان على رأسهم الإمام أبو العباس بن البناء العددي ذلك الفلكي المشهور، والحاسب المعروف الذي بذَّ أهل عصره ومن بعدهم بكثرة تحقيقه وطول باعه في العلوم الرياضية والإسلامية جمعاء؛ فحسب الآتين بعده، أن يقتصروا على كتبه وما خلفه من تراث علميٍّ طائل. فكان حاسباً عددياً لا ينافسه في هذا أحد كما أقر له بذلك فطاحل أهل العلم من معاصريه، وكان فلكياً بارعاً أتى بتحقيقات عديدة خالف بها كثيراً ما تقارَ عليه أهل الفن قبله. ولا ريب فإنه كان مفكراً جباراً لا يؤمن إلا بما يهديه إليه فكره بعد البحث الدقيق، والاستنتاج الصحيح. وقد خلف أكثر من مائة كتاب كلها مثال التحرير والإتقان، وشهد ابن خلدون لكتبه الحسابية بالجودة، وبها كانت الدراسة في عصر ابن خلدون.
وكان هنالك أيضاً الجاديري الفلكي البارع، صاحب الروضة التي شرحت شروح عديدة، وكانت بها الدراسة في المعهد القروي. وهذا الفاضل، له أيضاً عدة أبحاث خالف بها المتقدمين من أهل هذا الفن.
وحبذا لو أن أهل الإخصاء من أبناء جلدتنا تجرَّدوا لبحث آثار أسلافهم هذه، والمقارنة بينها وبين آثار المحدثين من علماء الغرب، إذن لوجدوا كثيراً من النظريات التي يفخر هؤلاء بالاهتداء إليها أوَّلُ. وهي من نتيجة جهود أولئك الأسلاف.
وكان هناك السطّي صاحبُ جداول الحوفي في الفرائض التي دل بها على حسن نظره في الحساب والرياضيات. وأبو زيد اللجائي، وكان له باع طويل في الهندسة والحساب والهيئة، وله آلة فلكية تذكر في ترجمته، وغير هؤلاء كثير ممن نبغ في هذه العلوم وألف فيها التآليف المفيدة.