- وحكاية السلطان أبي الحسن في بناء المدرسة الجديدة بمكناس معروفة، وهي أنه لما رُفع إليه ما صُرف في بنائها استغلى ذلك، فلمّا وقف عليها وأعجبته أخذ حسابها وغرّقه في صهريجها وأنشد:
لا بَاسَ بالغالِي إذا قِيلَ حسن ... لَيْس لما تَسْتَحْسنُ العَيْنُ ثَمَن
وتلك غاية في تخليد المآثر ليس بعدها غاية، وقد بلغ ما أنفقه على المدرسة التي بناها بغربيِّ جامع الأندلس من حضرة فاس وهو حينئذ وليُّ عهد والده أبي سعيد ما يزيدُ على مائة ألف دينار، وهي ما هي في ذلك الوقت. ومدرسة العطارين التي هي من بناء والده أبي سعيد، والمدرسة البوعنانيّة التي بناها ولده أبو عنان هما بالخصوص قطعتان خالدتان تقومان حجة على عظم النهضة الفنية في هذا العصر، وعلى ما كان لبني مرين من يد بيضاء في هذا الصدد.
وإن ننس لا ننس هنا الساعة العجيبة المنصوبة على باب المدرسة البوعنانية، فإنها كانت تُعدّ آية في دقة الصنع وحسن الوضع، وآثارها لا تزال ماثلة هنالك، وقد يكون من المفيد هنا أن ننقل لك ما ذكره ابن بطوطة في معرض مدح أبي عنان، وقد ذكر اعتناءه بجبل طارق ونص كلامه: «وبلغ من اهتمامه أيده الله بأمر الجبل، أن أمر ببناء شكل يشبه شكل الجبل المذكور يمثل فيه شكل أسواره وأبراجه وحصونه وأبوابه ودار صنعته- التي أنشأها والده أبو الحسن- ومساجده ومخازن عُدده وأهرية زروعه وصورة الجبل وما اتصل به من التربة الحمراء؛ فصُنع ذلك بالمشوَر السّعيد (١) - بفاس- وكان شكلاً عجيباً أتقنه الصناع إتقاناً لا يعرف قدره إلا من شاهد الجبل، وشاهد هذا المثال، وما ذلك إلا لتشوّقه إلى استطلاع أحواله واهتمامه بتحصينه وإعداده.» فهذا وحده كاف في الدلالة على الرقي الذي بلغته هذه الفنون في العصر المريني. ولكنّ مزيّة هذا العصر ليست في هذا الرقي، بل في أن علماءه كلّهم مغاربة لا يمتون بسبب إلى بلاد غير المغرب، وقد كان علماء العصر السابق أعني فلاسفته جلّهم إن لم نقل كلهم
(١) يطلق المنشور في اصطلاح المغاربة على البلاط الملكي، وانظر بحثنا المعنون بعاميتنا والمعجمية في كتاب خل وبقل.