توخينا ذلك المرام، هنالك دُعِيَ النصارى إلى السلم فاستجابوا، وقد كانوا علموا فناء الأقوات وما استرابوا، فتمَّ الصلح إلى عشر سنين، وخرج من بها من فرسان ورجال وأهل وبنين، ولا رُزِقوا مالاً ولا عدَّة، ولا لقوا في خروجهم غير النزوح عن أول أرض مَسَّ الجلد ترابها شِدَّة، ووصلوا إلينا فأجزلنا لهم العطاء، وأسليناهم عما جرى بالحباء، فمن خيل تزيد على الألف عتاقها، وخلع تربى على عشرة آلاف أطواقها، وأموال عمّت الغني والفقير، ورعاية شملت الجميع بالعيش النضير، وكفَّ الله ضر الطواغيت عما عداها، وما انقلبوا بغير مَدَرةٍ (١) عفا رسمُها وصمَّ صداها.
وقد كان من لطف الله حين قضى بأخذ هذا الثغر، أن قدّر لنا فتح جبل طارق من أيدي الكفر، وهو المطل على هذه المدرة، والفرصة منه إن شاء الله تعالى متيسرة، حتى يُفرَّق عِقْد الكفار، ويفرج بهذه الجهة منهم مجاوروا هذه الأقطار، فلولا إجلابهم من كل جانب، وكونهم سدُّوا مسلك العبور بما لجميعهم من الأجفان والمراكب، لما بالينا بإصفاقهم ولحللنا بعون الله عقد اتفاقهم، ولكن للموانع أحكام، ولا رادّ لما جرت به الأقلام، وقد أمرنا لذلك الثّغر بما يزيد به المدد، وتخيَّرنا له ولسائر
(١) هذه زخرفة لفظية وتسلية باردة وما ضاعت بلاد الإسلام إلا بمثل هذا التهاون والاستخفاف.