مسموع القول، موطأ العقب، نقموا ذلك عليه وغضوا منه بالقدح في مذاهبه والتكذيب لمدعياته. وأيضاً فإنهم كانوا يأنسون من ملوك لمتونة أعدائه، تجلة وكرامة لم تكن لهم من غيرهم، لما كانوا عليه من السذاجة وانتحال الديانة؛ فكان لحملة العلم بدولتهم مكان من الوجاهة والانتصاب للشورى، كل في بلده وعلى قدره في قومه، فأصبحوا بذلك شيعة لهم وحرباً لعدوهم، ونقموا على المهدي ما جاء به من خلافهم والتثريب عليهم والمناصبة لهم، تشيعاً للمتونة وتعصباً لدولتهم. ومكان الرجل غير مكانهم وحاله غير معتقداتهم. وما ظنك برجل نقم على أهل الدولة ما نقم من أحوالهم وخالف اجتهاده فقهاءهم، ونادى في قومه ودعا إلى جهادهم بنفسه، فاقتلع الدولة من أصولها وجعل عاليها سافلها، أعظم ما كانت قوة وأشد شوكة وأعز انصاراً وحامية. وتساقطت في ذلك من أتباعه نفوس لا يحصيها إلا خالقها، قد بايعوه على الموت ووقوه بأنفسهم الهلكة. وتقربوا إلى الله تعالى بإتلاف مهجهم في إظهار تلك الدعوة والتعصب لتلك الكلمة، حتى علت على الكلم ودالت بالعدوتين من الدول؛ وهو بحالة من التقشف والحصر والصبر على المكاره والتقلل من الدنيا، حتى الولد الذي ربما تجنح إليه النفوس وتخادع عن تمنيه. فليت شعري ما الذي قصد بذلك إن لم يكن وجه الله، وهو لم يحصل له حظ من الدنيا في عاجله? ومع هذا فلو كان قصده غير صالح لما تم أمره وانفسحت دعوته «سنة الله التي قد خلت في عباده».
وكما أنه لم يقم لطلب الملك على ما علمت، فإنه لم يقم لطلب ثأر له عند دولة المرابطين، لأنها لم تؤذه بشيء ولم تمد إليه يداً بسوء. وكون تنازع الزعامة بين المصامدة الذين ينتسب إليهم وصنهاجة التي ينتمي لها المرابطون، هو الباعث له على القيام كما قيل بذلك، ضعيف جداً؛ وخصوصاً مع ما علم من ديانته وتقواه وعدم تمسكه بأسباب العصبية التي نهى عنها الإسلام. على أنه لم يثبت أن هناك تنازعاً كان قائماً بين المصامدة وصنهاجة عند ظهور المهدي بن تومرت. والثابت هو أن دعوته كانت تحتضن مختلف القبائل لأنها قامت تحت شعار التوحيد، كما كانت دعوة عبدالله بن ياسين تنتظم صنهاجة وغيرها ولذلك سمى أتباعه بالمرابطين. فالأمر في الحالين معاً يتعلق بدعوة دينية أكثر مما يتعلق بعصبية قبلية. نعم لقد كان أنصار المهدي في غالب الأمر من المصامدة، وذلك لأنه آوى إليهم وأقام فيهم مدة يدعو إلى فكرته وينشرها بينهم بكل قواه، بعدما يئس من استجابة العلماء له في نبذ التقليد وطرح الجمود،