والحلاوة ليست داخلة في صوت المغني ولا في صوت البلبل إلا تخيلاً؛ لأنها مما يذاق والصوت مما يسمع.
ومثال ما كان الوجه فيه متخيلاً في أحد الطرفين: قولك: "لمحمد سيرةٌ كرائحة العطر" و "له خلق كأريج المسك" وذلك لأنه لما ذاع وصف كل من السيرة والأخلاق بالطيب مبالغة، ساغ أن تتخيل أنها من ذوات الرائحة الطيبة، فوجة الشبة - وهو الرائحة الطيبة - متخيل في المشبه في المثالين.
ومن هذا النوع قول القاضي التنوخي:
رب ليل قطعته بصدود ... ... وفراق ما كان فيه وداع
موحش كالثقيل تقذى به ... ... العين وتأبى حديثه الأسماع
وكأن النجوم بين دجاه ... ... سنن لاح بينهن ابتداع
فقد شبه الشاعر - في البيت الأخير - النجوم بين الدجى بالسنن بين الابتداع ووجه الشبة هو الهيئة الحاصلة من اجتماع أشياء بيض مشرقة في جوانب شيء مظلم.
غير أن هذه الهيئة موجودة على وجه التحقيق في المشبه - وهو النجوم بين الدجى - ولكنها ليست موجودة على وجه التحقيق في المشبه به - وهو السنن بين الابتداع.
وذلك لان الإشراق - وهو أمر حسي - لا تتصف به السنة لأنها أمر عقلي، كما أن الإظلام - وهو أمر حسي أيضاً - لا تتصف به البدعة لأنها أمر عقلي كذلك.
ولهذا كان الشبة غير متحقق في المشبه به إلا تخيلاً.
والتشبيه في البيت السابق من قيل تشبيه المفرد المقيد، وهو النجوم مقيدة بكونها بين الدجى بالمفرد المقيد وهو:"السنن" مقيدة بكونها بين الابتداع.
غير أن في عبارة الشاعر قلباً، وذلك لأنه جعل النجوم بين الدجى في جانب المشبه فكان من الواجب أن يجعل السنن بين الابتداع في جانب المشبه به لتصح المقابلة.