(من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) منقبة جليلة، ومأثرة عظيمة، ذكر كريم، ووصف جسيم، اعتناء باهر، وإكرام ظاهر، مجد شامخ، وفضل باذخ، خص به فقهاء الدين وحملة الشرع القويم على لسان أفضل البشر وسيد المرسلين عليه من الله أذكى صلاة وأتم تسليم.
نوهت هذه الجملة بفضل المتفقهين وأبانت مركزهم في هذه المجتمع بأنهم خيرته من أفراده، وصفوته من رجاله، وهم (والحق يقال) جديرون بهذه المكانة، حقيقيون بتلك المرتبة لما لهم من الأيادي البيضاء في خدمة الدين بتأسيس قواعده وتشييد مبانيه واستخراج فروعه من أصوله وأحكام أبوابه وفصوله إلى غير ذلك من الأعمال التي دأبوا عليها الأزمنة التي لا تنحصر والأوقات التي لا تعد حتى بينوا محاسن الشريعة كالأنجم الزهر، أو كالغرة في جبين الدهر، فجزاهم الله خيراً.
خلفهم خلف (وبئس الخلف هم) غمصوا حقوقهم وغضوا من فضلهم وجاوزوا إلى تزييف آرائهم وإبطال أقوالهم زاعمين أن غالبها لا مأخذ له من كتاب، ولا استناد به إلى سنة، ولا تعويل فيه على إجماع ولا اعتماد به على قياس، لا يوافق المعقول ولا ينطبق على المدنية بل هو خيالات تخيلوها وأكاذيب أفتروها حتى أخذوا يزينون لكل من علت رتبته في العلم أو نزلت أن يستقل بنفسه ويأخذ الأحكام التي تتعلق به من أدلتها ويرمي بأقوال أولئك الأئمة عرض الحائط وهناك والله الطامة الكبرى من محو الشريعة وتفريق الأمة (حمانا الله من ذلك) نقول هذا ولا نرتاب في أن فتح هذا الباب (باب الاجتهاد) وترك أقوال أئمة عظام وجهابذة فخام أحاطوا بالعلوم العربية من جوانبها وعلموا أصول الشرع وقواعده واستظهروا الكتاب وتأويله وحفظوا المائة ألف والمائتين منم أحاديث السنة بأسانيدها وتراجم رجالها وعرفوا الناسخ والمنسوخ ووقائع الأحوال وأسباب النزول مع ذكاء باهر، وفطنة متوقدة، نعتاض عنها بأراجيف من علم من الصرف الثلاثىَّ المجرد ومن النحو الفاعل والمفعول ومن غامض اللغة مادة أو مادتين ومن تفسير الكتاب تفسير آية أو آيتين ومن الأحاديث نزراً تلقفه من الأفواه لم يعلم سنده، ولا حال رجاله، لا أطلاع له على شيء من باقي العلوم إلا ما كان من شعر ينشده ونثر يسرده (وهذه حالة فغالب مدعى العلم في